يقول أحدهم : الكتب بالنسبة لمانويل ريفاس كائناتٌ حيّة تنبعث منها "نفس رائحة الجلد المحروق". لكن الكتب لا تحترق جيداً، فتبقى دوائر الدخان تحوم في الهواء.
ولقد أنبعثت من قلم النجّار العديد من روائج الجلد المحروق، ففي الحرب الأهلية الإسبانية من لم ينجو من سطوة الرصاص وعنفوان القتل؟!
يقتلع الكاتب من رحم الموت الطبيب دانييل دا باركا ليقيم على حياته خط أمل بعد كل العذابات ، ذلك الطبيب الذي يشارك الجمهوريين نضالهم ضد فرانكو وجنوده والقتلة الفاشيين يعيش في السجن أغلب حياته ويتعرض لأكثر من محاولة للقتل ويتزوج وهو داخل السجن في سلسلة من الأحداث التي لا يتحدث فيها الدكتور كثيرا عن نفسه وإنما يخبرنا بها سجّانه الذي أصبح في آخر الأمر حارسه وحاميه يجلس على بوابة ملهى ليلي يخبر أحدى المومسات كيف كانت أيامه مع الطبيب دا باركا، يحاول أن يطهّر نفسه بالكلام كمن يلتقط جملاً في البقايا: "كل الناس صالحين للحرب. إن لم يكن كي يقتلوا، فلكي يموتوا". و"المسنّون يدفنون الشباب، تلك هي الحرب".
يقتل هربال في إحدى جولات الموت الفاشية رسّاما جمهوريا بطلقة واحدة ، رسّامٌ عندما أراد ان يرسم بوابة الكاتدرائية رسم أصدقاءه المساجين بدلا من الملائكة والقديسين، لأنه يرى فيهم قديسي هذا الزمان ، يأخذ هربال قلم النجّار الذي كان يستخدمه الرسّام ويضعه على أذنه ومن هنا تبدأ جولة رائعة أدارها الكاتب بإحكام وإقتدار. فلقد جعل من قلم النجّار الضوء الذي يبدد العتمة عن مأساة الرسام ويعيد ترميمها من جديد. بقلم النجّار يتعقب الكاتب أثر المقتول فيمضي ليدرس الخطوط والقسمات في الوجوه التي كان رسمها. لم تكن وجوه القديسين في الكنيسة بل كانت وجوه رفاقه الجمهوريين في السجن.
يصبح الرسّام ظلّ السجّان وروحه التي تنقذه من انقباضات الظلم التي تسيطر عليه عندما يغيب، الرسام الذي يخرج كل يوم باحثا عن أبنه ليرسخ في ذهن القارئ أنه ليس وحده من سيناضل بالقلم .
يعيش هربال مشتتا بين الشخصيتين، تلك الواقعية القاتلة والأخرى التي يعيشها مع الرسام أو ما قال عنه الدكتور دا باركا " الواقع الذكي".
بين الألم الشبحي وموتى السلّ والغسّالات الآتي يرسمن الجبل بألوان غسيلهن ويرسمن السهل بقربهنّ من السجناء بين حبيبة وزوجة دا باركا التي كانت كوثيقة صلح بين الجمهوريين والإقطاعيين، إستطاع الكاتب أن يقدّم لنا رواية قامت على لغة شاعرية هادئة مليئة بالإحاسيس والعواطف برغم القتل والدم الذي سال بين جنباته
لقد أقام الكاتب البناء الروائي بمخيلة شاعرية أتاحت له أن يقدّم مرافعة قاسية وإدانة لا تقل قسوة للمنتصرين في الحرب الاهلية الاسبانية، وانصافا لروح المهزومين، وهو أمر يستحق التحية والتقدير وسط فقدان الذاكرة السائد في هذه الايام،
إننا نقرأ كتابا يتحدث عن الحب في زمن الحرب إنه ليس كتاباً تاريخياً، ولو أنّ وراءه جهود بحثٍ كبيرة، إنها إستنطاق للتاريخ على لسان الشعب ينصحنا ريفاس بقراءة كتابه لولبيّاً، وعدم توقّع الكثير من العقلانية.
أعجبت به جدا