مرة أخرى مع هذا الكتاب الدسم جدًا، وكنت قرأته قديمًا فازددت عجبا وإعجابًا من هذا العملاق الذي كتبه مقالاتٍ متفرقات ثم جمعها، فالعلامة محمود محمد شاكر رحمه الله كان أسطورة في التحقيق ومعجزة لم يأت على مر الزمان مثله إلا نفر قليل. وهو كتاب كما قلت دسم جدًا يحتاج من قارئه مزيد تركيز وفهم حتى يستوعب فهمًا ما خطه مصنفه، وما أراد الوصول إليه من نتائج عبر سلسلة من التحقيقات قام بها المصنف ببراعة منقطعة النظير بلا مبلاغة. وعلى الرغم مما سبق فإني في أول قراءة لم أحب بعض ما فيه، ذلك لأني رغم ولعي بالشعر، أكره العروض وتعقيداتها وأميل إلى سهولة التعامل مع الشعر من خلال مجرد التفعيلات. ورغم استمتاعي بالتحقيقات وما تلى ذلك من نتائج مبهرة عن القصيدة موضوع الكتاب، إلا أن استطراده وغوصه في تعقيدات العروض قوض عليَّ استمتاعي هذا – آنذاك –.
إلا أني منذ فترة تذاكرت مع أحدهم العروض وتحكمات وتعقيدات الدوائر بها، فتذكرت أن العلامة شاكر كان قد شرح بعض المنطق في حكم الدوائر وتكلم بطريقة جذلة جدًا عن ترتيب التفعيلات أو الأجزاء بها وشرح ذلك شرحًا منطقيًا ووضح – استنتاجًا – مقاصد الخليل من هذا كله، على عكس كل من تكلم في العروض حيث تعاملوا معها كعلم جامد، حسبما أعلم. فخطر لي أن أعيد القراءة مرة أخرى وأعيد النظر في هذا السفر العظيم، مستعينًا على نمطيه الصعب والمخيف بالدراسة، فقررت العود لمدارسته مرة أخرى، وأن أجلس متعلمًا بين يدي الشيخ رحمه الله من خلال كتابه، الذي برأيي يحل في أحد فصوله ألغازًا كثيرة في العروض، خصوصًا فيما يتعلق بعدوي اللدود في الشعر، ألا وهو بحر المديد، الذي أسميه عَصِيَّ الشعرِ العربي.
وعلى أية حال، فالكتاب برأيي لا يستحق مجرد القراءة، بل يستحق أن يكون أحد الكتب التي تدرس في مجال الآداب، ولاسيما النقد الشعري. لكن للأسف لحق هذا السفر العظيم ما لحق إخوته من تراث العلامة شاكر، من الطي والنسيان والطمس، لأسباب لا تخفى على من عرف العلامة شاكر وعرف تاريخه في النضال من أجل دينه ولغته وأمته، رحمه الله رحمة واسعة، فقد أعجز حقًا من جاء بعده إلى يوم الناس هذا.