تعقيب: هذه الرسالة تحفة قيمة ينبغي لكل طالب أدب وكل طالب معرفة خاصة فيما يتعلق بالثقافة الإسلامية مطالعتها، وربما تعاب هذه الرسالة باختصارها الشديد ولكن لعل ذلك ما أراده المؤلف، أن تمثل مدخلا لمعرفة ثقافتنا وما تأثرت به وما ساهم في انزوائها خاصة إذا كانت الأسباب ساهم ويساهم بعض أبناء جلدتنا فيها، وهي كافية لتعرف الأمر بصورة مجملة لكنها غير كافية على إطلاقها بل تحتاج إلى بحث عن أصول ما نقله المؤلف والنظر فيما سبقه وفيما تلاه، ونحتاج إلى بحث موسع عن تلك الفترة التي تناولها المؤلف من تاريخنا نجمع فيه الوثائق والدلائل على ما تناوله في رسالته.
ولعلك ترى أن محمود شاكر مبالغا في تبني نظرية المؤامرة غير أنك في المقابل لا يمكنك نفيها كما أنه في كتابه يسرد أحداث مثبتة ومؤرخة فلا يمكن نفيها أو التحايل عليها.. قد لا تظن كما يظن هو أنها مرتبطة أو أن هناك مؤامرة كبيرة متكاملة لكن ليس في وسعك أن تنكر وجود مؤامرات صغيرة متفرقة في تلك الحالة، كما لا يسعك أن تنكر وجود ما يشبه الاتفاق الضمني بين أصحاب أي منهج مهما اختلفت أزمانهم وأوطانهم ومنهم أصحاب الغزو الثقافي والتغريب الفكري، غير أن المؤلف يحكي عن بدايات المؤامرة وكيف نشأت وكيف تمكنت وهذا لا يمنع أن يكون كثير ممن يحققون تلك المؤامرة العالمين بها وبحالهم معها قد ماتوا سواء منهم أو من تلامذتهم من أبناء أمتنا، وخلف من بعدهم بعض ممن استأمنهم هؤلاء على هذا السر وكثير ممن تتلمذوا على أيديهم وآمنوا بأفكارهم ومناهجهم فصاروا يدافعون عنها وكأنها مناهجهم وأفكارهم الخاصة وكأنها هويتهم غير مدركين لأصولها ولا أصولهم.
تلخيص: إن جميع كتابات محمود شاكر مترابطة لأنها كلها تدور حول محور واحد ألا وهو المنهج ذلك اللفظ الذي قلقل حياته وترك على إثره الجامعة لما لم يجد في مدعي الثقافة والأدب وخاصة أستاذه "طه حسين" أي فهم أو تطبيق لهذه الكلمة إلا ما كان من دعاوى وزعم يزعمونه ليضللوا به طلابهم، وهذه الرسالة كغيرها من مؤلفاته مبعثها هذا اللفظ لكنها لم تقتصر عليه، أما هي "هذه الرسالة" فقد سعى فيها إلى تحديد هويتنا الثقافية ببحثه عن المحور والأصل كل ثقافة ألا وهو الدين (الأصل الأخلاقي) واللغة.
فالدين هو الباعث الحقيقي للثقافات المختلفة، ثم شرع في متابعة تاريخية لثقافتنا خاصة فيما يتعلق بالمنؤثرات الخارجة عليها والتي تتمثل في الغزو، سواء كان حربيا رافقه مدخلات ثقافية جديدة هذا فيما يتعلق بالعصور المتقدمة وقد جعل محورها الحملات الصليبية، أو ثقافيا والذي يحلو لأبي فهر دعوته بالتبشير الثقافي أسوة بالتبشير الديني التي تميزت به العصور المتأخرة، وقد جعل أبو فهل هذا الغزو الأخير المحور الرئيس في رسالته إن أن تأثيره كان الأكبر والأدوم، ولم يغفل خلال توضيحه لهذا الغزو أو التبشير الثقافي عن توضيح مدى صغر الفارق بين الحضارتين الإسلامية والأوروبية في بداية عصر النهضة الحديثة وكيف أن مفاتح عصر النهضة كانت بيد المسلمين غير أنه لم يحسنوا استخدامها وظفر بها الأوروبيون منهم ببعض من الحيل والسطو، وقد تناول كذلك الاستشراق مبينا أهدافه الخفية وكيف كان ذا أهمية ومنفعة كبيرة لأوروبا كما كان نقمة على العالم الإسلامي وهو في ذلك يتناول بعض كتابات المستشرقين.
وأما اللغة والتي هي لا تنفك عن الدين في بناء الثقافة فهذا لأن القرآن وهو أصل الدين هو كتاب عربي فكان الارتباط بينهما وثيق لا فكاك منه، ويبين أبو فهر كيف أن المستشرقين وأعمالهم لا ترقى أبدا إلى أن تكون ذات منهج فضلا عن أن تكون ذات منهج صحيح لا لمجرد غياب العنصر الأول وهو الدين ولكن لأن هؤلاء المستشرقين غاب عنهم العنصر الثاني إلا قليلا مما تعلموه بمخالطتهم العرب الذين هم في ذاتهم في حكم الجاهلين بلغتهم، ولذا يكون حكمهم على النص العربي حكم غير مقبول لأنهم لا يملكون مقومات الحكم عليه وهذا من آكد الأمور التي تخل بالمنهجية.
ثم هو بعد ذلك يسرد سردا تاريخيا ملخصا لحال الأمة منذ القرن الحادي عشر الهجري معرفا برجال النهضة الجبرتي الكبير ومحمد بن عبد الوهاب والشوكاني والزبيدي والبغدادي، وموضعا لتقارب الحضارتين الإسلامية والأوروبية في ذلك الحين، ثم يسرد تاريخ الاحتلال الأوروبي العسكري لمصر وكيف سعى إلى توطيد سطوته من خلال إلحاق الغزو الثقافي بالغزو العسكري وقد بين كيف هيأ الاستشراق لكلا الاغزوين العسكري والثقافي خاصة فيما يتعلق بالحملة الفرنسية بقيادة نابليون بونابرت، ثم ما حدث من انشقاق محمد علي عن الخلافة العثمانية وغدره بمشايخ الأزهر ومساهمته في التغريب الثقافي بحث من القناصل الأوروبيين على تسيير البعثات العلمية إلى أوروبة، وكيف منثلت هذه البعثات نواة لتغريب ثقافي أكبر يقوم على تنفيذه أبناء الأمة ممن شارك في تلك البعثات وعاد منبهرا بالحضارة الأوروبية وعلى رأسهم رفاعة الطهطاوي، ثم ما لحق الاحتلال الفرنسي من احتلال انجليزي والسيطرة الانجليزية على التعليم والبناء الثقافي للنشء من خلال اعتماد نظام دانلوب مما أدى إلى تفريغ الطلبة من ماضيهم وهويتهم وانتمائهم.