يحكي هذا الكتاب عن القدرات الامريكية الهائلة والمحاولات الحثيثة عبر التاريخ الحديث لـ"تمدين" الأمم المتخلفة الجاهلة المثيرة للشفقة، من الرعاع الدون الملونين غير أولي الثقافة ولا الفكر وغير المؤهلين "بعد" لأن يكونوا بشراً بالمقاييس البيضاء الانكليزية لكلمة بشر.
حوى الكتاب الكثير من الفواجع والمآسي التي ألحقها الإنكليز بشعوب أميركا الأصلية إبان احتلال أرضهم، وعلى مدى السنوات الطوال، وحتى ما قبل عدة عقود فقط. لهول ما قرأت، كنت اظن أن الكاتب قد ابتدع شيئاً من عنده أو بالغ أو هوّل في أغلب الجوانب على عادة بعض المؤرخين العرب ممن يأخذهم الحماس وينحو بهم نحو التحيز والبعد عن الموضوعية، وخاصة عند الحديث عن "الأمريكان". غير أن الكاتب كان دائماً يعاجلني في نهاية كل فصل بصفحات (أو صفعات) من المراجع الموثوقة لمعلوماته مع إبداء ملاحظة أنه لم يستطع إيراد كل شيء لضيق متسع الصفحات!.
كان ولا يزال في داخلي شيء من عدم التصديق على الرغم من قراءتي لأسماء المراجع كلها، ولكن المرء غالباً ما ينحى نحو إنكار ما لا يستطيع تصوره، وهذا كان حالي. ولكن رغم هذا، لم أستغرب ما قرأت صراحة، فلدى شعب الله المختار هذا مواهب لا تعد في مجالات انتهاك حرمة أقرانهم من البشر كما هو معلوم. ولكن ما كان يثير دهشتي هو انعدام الروح والضمير عند من يقومون بهذه الفظاعات. فلننس الضمير لبعض الوقت.. أليس لديهم قلوب، مشاعر، رأفة، شفقة من أي نوع؟ ألم يضعوا أنفسهم ولو لمرة مكان من يمارسون بحقهم أشنع الجرائم؟ ولو لمرة صغيرة فقط؟
هذا ما كنت أفكر به طوال قرائتي.
كان في ذهن الكاتب فكرة تمحورت حولها أفكار الكتاب ألا وهي لعنة كنعان الموجودة في توراتهم، والتي تنص على وجوب إبادة كل من هو من نسل هذه الأمة (والتي تقع في فلسطين وما جاورها) واقتلاعهم من أراضيهم لكونهم كائنات أدنى من العرق الآري الأبيض المنتخب على جميع الأمم، والذي ينتمي إليه إلههم أيضاً (فالإله، حسب زعمهم آري أبيض) ويوجب الجنة والجزاء الاوفى لكل من يقتل من لاينتمي من مخلوقاته إلى هذا اللون والعرق! فقارن الكاتب بين ممارساتهم في فلسطين والدول العربية والإسلامية وبين ما كانوا يفعلونه على مدى قرون بجميع شعوب الأرض الأخرى من أفارقة وأستراليين أصليين وإيرلنديين وهنود حمر ومسلمين ويهود وصينيين وغيرهم. هنا، أحببت كيف أن الكاتب لم يجر شرحاً مقارناً مباشراً بين الحالتين، بل اكتفى بوضع جملة "لعنة كنعان" هنا وهناك في كل فصل حتى تبقى الفكرة في ذهن القارئ ليجري هو المقارنة بنفسه.
تناول الكتاب مواضيع مختلفة تتعلق بالإبادات الثقافية للهنود الحمر والتي يمكن اعتباراها محاولات حثيثة لتغيير ديموغرافيا الامكنة ومحو القبائل الهندية عن الخارطة وتقليل أعداد الهنود إلى أدنى حد عن طريق المجازر. أما ما بقي منهم فمورس بحقهم الحرمان من أطفالهم الذين كانوا يقتلعون من أحضان امهاتهم بأبشع الطرق ليوضعوا في مراكز مخصصة تربيهم على "الأخلاق" الانكليزية الرفيعة وتحط من شأنهم وشأن ثقافتهم ودينهم وعاداتهم واخلاقهم، وتفتري عليهم وتلفق لهم الأكاذيب حتى ينسلخوا من جذورهم كما سلخت فروات رؤوس آبائهم بالضبط. ولكن السلخ كان فكرياً. ترك الأطفال لعمل السخرة أو الخدمة أو القتل أو التحرش أو الموت مرضاً وجوعاً وبرداً، ومن نجى منهم بات مغسول الدماغ، فلا هو عاد لأصله وأصل آباءه، ولا هو قُبل في صفوف الشعب العظيم المختار لكونه من عرق أدنى.
تحدث الكتاب عن المجازر والقتل الشنيع وقتل الاطفال وسلخ الجلود وغسيل العقول وامتهان الكرامات والخطف والتعذيب والتشريد وتغيير الثقافة والدين وغيرها الكثير مما مارسه الانكليز ليس فقط بحق الشعوب الهندية في أمريكا ولكن بحق الشعوب الأسترالية الأصلية والإيرلنديين واليهود، لا بل وحيوانات تلك المناطق أيضاً (كمجازرهم بحق الجواميس والحمام والطيور وغيرها في تلك المناطق).
أظهر مدى حقد وجشع وطمع ولا إنسانية ووحشية وشناعة من يدعون كونهم أعلى منزلة من بقية الشعوب، وتناول بالبحث والتحليل والعرض أفكارهم وأقوالهم وخطاباتهم وافتراءاتهم وكذبهم وتزويرهم للحقائق وموافقتهم وتشجيعهم وادعاءات حسن نيتهم في كل ما يتعلق بالمجازر التي ارتكبوها في كل مناطق نفوذهم.
اعتمد الكتاب على شهادات الناجين أو شهود العيان ومذكرات المرتكبين ورسائلهم، وعلى خطابات السياسيين وأقوال المفكرين، وعلى نصوص محغوظة للأوامر العسكرية التي تدعو لارتكاب هذه المجازر، وعلى تحليلات ديموغرافية ومقالات وأبحاث موثوقة وتحليلات قديمة وحديثة لكل تلك الوقائع والأحداث.
كما كان الكاتب ينوه على طول الكتاب لضرورة عدم التعميم الساذج لكل ما سنقرأه على المجتمع ككل، وهو شيء أعجبني تبيانه، فلست من النوع الذي يفضل رمي شعوب كاملة بشيء قد فعلته مجموعات منهم (وإن كبرت) حتى لا أسقط أنا نفسي في فخ مغالطات قد تحولني إلى كائن يشبه هؤلاء ولو بأيسر شكل ممكن.
هم أصبحوا ما هم عليه لتعفن أفكارهم، فلا نسقطن نحن في الفخ نفسه.
كان الكتاب عميقاً في الشرح والتوصيف، ذا لغة فصيحة وأسلوب مباشر لا يخلو من لون من ألوان السخرية. أنهيته وفي القلب حرقة وفي العقل صور تقارن ذاك الزمان بهذا، وكأن لم يختلف شيء هنا وهناك سوى الزمان والمكان والوجوه والطرق. أما الممارسات فنفسها، وقتها واليوم.
لا أعلم إن كان يمكن قول كلمة "أعجبني" عن هذا الكتاب، ولكنه كان كتاباً ممتازاً ولا أشك في أنني قد أقرأ لهذا الكاتب مجدداً في وقت قريب إن شاء الله.