كتبها في (بودابست) المجرية التي هرب إليها بعدما طُرد من بعثته لدراسة الإخراج بروسيا وبعدما اصطدم مع الفكر الماركسي الشيوعي الذي كان مولعا به في البدء ...في زمن يتأرجح بين عام 63 و64 ...ويترنح ما بين أوائل شتاء وأواخر ربيع...ورغم أنف ذاك الربيع كانت كلها شتائية المناخ ....ورغم أنف هذا الشتاء فلن تجده أبداً حزناً زمهريراً صارخا ..بل حزنا نبيلاً...ذاك الذي يلتحف اليأس ثم يجلس هادئ الوجه .. يطعم فؤاده الكثير من السخرية وأبداً لاينسى في الليل ان يهدهده ب(موال الحنين).....فقط ليبقي على هذا النبض بعد اليأس حيا ً وإن كان خافت .....أكنت وحدي من شعر بأنها غرفة بلا نافذة تلك التي دوّن فيها نجيب سرور ديوانه هذا ؟؟و بمصباح واحد باهت؟؟ ...وإن لم يكن فلابد كانت ملئ حتى السقوف بالكتب !!...وإن لم يكن فلابد كان هناك (الكوميديا الإلهية لدانتي الإيطالي) و(رسالة الغفران للمعري )!! ...فلقد فعل بالمعري ما فعله المعري بالآخرين ...حيث ارتحل في رسالته الشهيرة إلى شعراء سبقوه لعالم الآخرة ..حاورهم فيه عن وزن الموسيقى في الأبيات ووزن الصدق في القلوب ..محاورات كانت بين ربوع جنات الخلد في حين ...وعلى فوهات الجحيم أحيانا أخرى ..كما تبعه متأثرا بها دانتي الإيطالي في كوميدياه الشعرية ........ما كان مختلفا هو أن نجيب سرور لم يكن بطل المشاهد فلقد أسند دوره ل(دون كيخوت).
قد آن يا كيخوت للقلب الجريح
أن يستريح
فاحفر هنا قبراً ونم
وانقش على الصخر الأصم :
((يا نابشاً قبري حنانك ، ها هنا قلب ينام
لا فرق من عام ينام وألف عام
هذي العظام حصاد أيامي فرفقا بالعظام
أنا لست أحسب بين فرسان الزمان
إن عد فرسان الزمان
لكن قلبي كان دوما قلب فارس
كره المنافق والجبان
مقدار ما عشق الحقيقة
قولوا (لدولسين) الجميلة ...(أخطاب) قريتي الحبيبة:
((هو لم يمت بطلاً ولكن مات كالفرسان بحثا عن بطولة))
لم أكن أعرف من هو (دون كيخوت) هذا .. ذلك الذي دار حول فلكه كل الديوان .. فلقد أعاره نجيب سرور لسانه وقصة حياته واسم قريته الصغيرة في المنصورة (أخطاب) وأبقى له اسمه واسم محبوبته (دولسين) وعندما بحثت عرفت أنه بطل إحدى أهم روايات الأدب الأسباني القديم والتي تحكي عن رجل برجوازي طويل القامة نحيل الجسد مغامر الروح ....سئم القيم المكفنة في صفحات الكتب فاتخذ رمحا باليا ودرعا مهترئا وامتشق حصانا هزيلا وأخذ يدور بين البلاد
باحثا عن بطولة ولكنه :
لم يلق في طول الطريق سوى اللصوص
حتى الذين ينددون كما الضمائر باللصوص
فرسان هذا العصر هم بعض اللصوص
كانت الرواية الأسبانية لها طابع ساخر لطيف ...فجعلت ل(دون كيخوت ) مرافقا هو (سانشو) خادمه القصير البدين ليصيرا مجتمعين مثار سخرية الناظرين ..وليظل(كيخوت ) يعرف بنفسه مدافعاً:
إني أتيت إلى الوجود كما يجئ الأنبياء
لا لست أنتحل النبوة غير أني مثلهم
في (مذود) يوما ولدت
في قريتي (أخطاب) حيث الناس من هول الحياة
موتى على قيد الحياة
لا الأرض غنت لي ولا صلت لمقدمي النجوم
ولا السماء تفتحت من طاقة القدر السعيد
ولا الملائكة باركوا مهدي
ولا هبطت تصفق فوق رأسي بالجناحين حمامة
قالوا: غراب ظل ينعق يومها فوق النخيل ...حتى انفجر!
وعرفت أن الشمس لم تعبر بقريتنا ..ولا مرّ القمر
بدروبها من ألف جيل!
ولا العيون تبسمت يوما لمولود ..ولا دمعت لانسان يموت!
فالناس من هول الحياة
موتى على قيد الحياة !
اقرأ عن نجيب سرور قبل أن تقرأ له .. ضعف المتعة سيكون حصادك لا شك ...فإن علمت أن البعض من موفدي البعثة من زملائه هم من وشى به لكونه معارضا سياسيا عند المخابرات المصرية والتي تلقفته بدورها فور وصوله ليقبع بزنازين التعذيب حينا طويلا فيعذب وينفخ ويصلب ...إن علمت ذلك فستقرأ قطعة (العشاء الأخير) هذه بحس آخر:
غداَ أكون على الصليب
أنا العريس!!
نفديك بالدم يا معلم ..بالنفوس
لا تكذبوا ..فلسوف يسلمني الذي منكم يشاركني الغموس!!
أأنا أخونك؟؟
أنت قلت!!
وأنا؟؟
ستنكرني ثلاثا قبلما الديك يصيح
إنا لنقسم يا مسيح ...!!
لا تقسموا فغدا أكون على الصليب
وغدٌ لناظره قريب!!
في نفسي رغبة لذكر شئ عن نجيب سرور بعيدا عن أمر هذا الديوان فلقد قيل أنه خرج من زنازين التعذيب ليودع بإحدى مستشفيات الأمراض العقلية قبل أن يقضي نحبه .....حيث رُمي بالجنون بعد عدة أعمال ناقدة لسياسة القمع في مصر والأردن ..منها ديوان ساخر صودر و منع من النشر بالرغم مما قيل عن إعجاب السادات به ....ولامه بعض نقاد الأدب حينها لكثرة استخدامه لبعض الألفاظ النابية..ولا أدري كيف اجترؤا على مثل ذاك اللوم السخيف ..فلو كان فيهم صادقا واحدا لتركه بعد كل ما ألمّ به يسب ويلعن ويبصق على الوجوه ثم احتضنه طويلاً وتركه يكتب ما يشاء ...فليس أقذر من أدب تطالب به من انتهكت انسانيته قائلا بسخف : هلا تحدثت بلطف قليلا إن سمحت؟؟.. وليس أعف من لسان اعتاد شتم باطل ...اسم ذلك الديوان الذي أعنيه (ك* س أميات نجيب سرور) وبات يعرف تأدبا (بأميات نجيب سرور).
كل ما أسهبت بالحديث عنه الآن في كفة ..وهذه الأبيات عندي في كفة أخرى ..يقول محاورا دانتي في الجحيم :
كم لاعني المنفى كما لو كان مصهور الحديد في جوفي
أتدري ما الجحيم ؟
ها نحن فيه من الصباح!
لا ..ليس هذا ...فالجحيم
هو أن تعيش بلا وطن
وتموت في المنفى ، وتدفن في تراب الآخرين!
الآن أذكر أغنية ..كانت تغنى في المآتم عندنا :
((ودا قبر مين اللي ما حد يروح له
قبر الغريب اللي ماجوله أهله
ودا قبر مين اللي البقر داسه
قبر الغريب اللي هجر ناسه
ودا قبر مين اللي البقر هدّه
قبر الغريب اللي هجر أرضه ))
فيرد دانتي : من قال هذا الشعر ؟
فيقول : لا يدري أحد
فيقول دانتي : هذا كبيركم وما فيها مرية
هذا أمير الشعراء
أبلغه إعجابي وأقرئه التحية !!
وصارت الأغنية الجنائزية هذه وسواسي القهري ليومين إلى الآن .... وكأن هذا ما كان ينقصني .