يعجبني هذا الميلان كونديرا ولكم تمنيت أن يكون فلسطينياً الآن ليعيد تعريف معنى "النوستالجيا" أي الحنين الى مسقط الرأس. عندما أقرأ رواية، تختلط كثيراً ذكرياتي وتجاربي الشخصية مع أحداث الرواية لأنتهي منها بحكاية أكاد أجزم أنها ليست التي كتبها الكاتب لكنها كافية لأعطيها التقييم العالي ليعبر عن مدى اندماجي مع النص لأتخيله يعيد كتابة حياتي من خلالها.
ان حكاية عوليس العائد الى ايثاكا في أوديسة هوميروس كما يرويها كونديرا تكاد تنطبق على كل متغرب أو مخلوع عن وطنه برضاه أو رغماً عنه، لا أعلم حقاً ان كان هذا شعور كل شخص لكن على الأقل هذا ما عايشته وهذا ما أسقطته على أحداث الرواية. هنا يحدثنا عن رجل وامرأة التقيا في مكان ما في زمن ما في التشيك ابان انتشار الشيوعية وخروجهما منها وعودتهما اليها في زيارة عابرة بعد سقوط الشيوعية. فكرة الغياب عن الوطن ثم العودة اليه تختلط هنا بين محاولة نسيان الماضي او ما يشير اليه هنا كونديرا الذاكرة الانتقائية التي تحتجز من الماضي الشيء اليسير ولا تعرف لماذا هذا الجزء دون غيره وبين الحاضر الذي هو موطنك الجديد حياتك الآن هاهنا.
يذكرني هذا الحديث ب حسين البرغوثي وحكاية شرقي نهر الأردن وغربيه، تلك الغربة التي شعرها نهر الأردن الذي لا يعرف اين ينتمي ألشرقي النهر أم لغربيه؟ هذا الغريب/المنفي/المهاجر/المبعد عن وطنه الى أيهما ينتمي، موطنه الأصلي مسقط رأسه أم بلاد الهجرة حيث كون نفسه وحياته؟ وما يزيد الوضع سوءاً تلك الوحدة بل قل الغربة التي تشعرها تجاه أهلك وأقرباءك الذين يتحدثون لغة أخرى ويعيشون تاريخ آخر وحياة أخرى لم تكن يوماً جزءاً منها وعند العودة يطالبونك بأن تعود الى تلك النقطة... نقطة ما قبل الغربة ثم فجأة تلتحم بهم من جديد! يطالبونك بأن تلغي كل تاريخك وحياتك منذ فراقهم لتعيش تاريخهم هم... يعودون بك الى ذاكرة الماضي، أشخاص لا تكاد تذكرهم، ذكريات لم تعد تعنيك بشيء لأن عقلك قرر أنها لم تعد صالحة لحياتك الآن، وهم يريدون أن تعود اليهم بذاكرتهم هم... بحياتهم هم... وجل ما يقومون به هو الحديث عن أنفسهم... لا يسألون عن حياتك في الغربة كيف كانت... ولا من أنت الآن... أنت بنظرهم ذلك الكائن الذي توقف به الزمن في لحظة ما... في مكان ما... ولا يريدون معرفة أي شيء آخر سوى ذلك الكائن.
يسوق كونديرا على لسان احدى بطلاته:
"بإهمالهن لما عاشته في الغربة تماماً، بدأن ببتر عشرين سنة من حياتها. الآن وبهذا الاستجواب يحاولن أن يحبكن ماضيها القديم مع حياتها الحالية. كما لو أنهن بترن ذراعها ووضعن اليد مباشرة في المرفق، كما لو أنهن بترن ربلتي ساقيها وربطن ركبتيها الى قدميها". هذا الشعور عندما ينسجون بمخيلتهم شخصية متخيلة عنك، عن حياتك، ويصدقونها ويصدقون أنهم يعرفونك أكثر منك دون حاجة الى أن يعرفوك الى أن تتحدث… الى أن تكون أنت أنت!! لطالما استطاع والدي أن يجاريهم وأن يحسم أمره تجاه الأسئلة تلك أما بالنسبة الي يبدو أنني ما زلت أشبهه... نهر الأردن أعني.
أعجبتني هذه الرواية... أعجبتني حقاً... شكراً لك ميلان كونديرا.