((محنة المثقف العربي عبر روايتين))
صدرت قبل حوالي العام رواية ((بابا سارتر)) للروائي العراقي علي بدر عن دار رياض الريس للكتب والنشر ببيروت في 262 صفحة من القطع المتوسط. والرواية تصور جيل من المثقفين العراقيين في مرحلة الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم وكيفية فهمهم للتيارات الفلسفية الواردة من الغرب وخاصة الفلسفة الوجودية. هذه الفلسفة والذي فعّل في انتشارها بشكل خاص هو إنضواء أدباء مثل ساتر وسيمون دي بوافوار إلى تيارها وبالتالي ترجمة كتبهم الأدبية عبر دور النشر اللبنانية بشكل خاص، إضافة إلى الكتب الفلسفية الخاصة بهذا التيار الفلسفي والدوريات التي تضم مقالات للترجمة ولكتاب عرب تصب في هذا المنهج مثل مجلة الآداب والكاتب العربي.
بطل الرواية ((عبد الرحمن شوكت))الذي يطلق عليه الروائي لقب ((فيلسوف الصدرية)) (والصدرية: هي حي من أحياء بغداد كان يقطنها بطل الرواية)) يسافر إلى باريس لدراسة الفلسفة الوجودية كي يغترفها من منبعها بعد أن تعلق بها، ويذكر الكاتب بإن جذوره الوجودية قد تحددت قبل سفره عن طريق قرآته للمطبوعات والدوريات بل إن حياته مطفولة وشبهه بسارتر هي التي مهدت لذلك.
الرواية تذكرنا برواية صدرت في الستينات من القرن الماضي وهي رواية ((موسم الهجرة إلى الشمال)) للأديب السوداني الطيب الصالح وهذه الرواية هي الأخرى تصور عربي أغترب ونهل من منهل الفكر الغربي ثم عاد إلى بلده وان كان بطل الرواية ((مصطفى سعيد)) قد سبق ((فيلسوف الصدرية)) زمنياً بجيل كامل، حيث إنه درس في إنكلترا في فترة ما بين الحربين.
كلا الروايتين لهما راوٍ يتحدث عن بطله، ففي رواية الأديب العراقي فإن الراوي لا يلتقي بطله مطلقاً إلا عبر وثائقه ومعارفه ومعاصريه أما رواية الكاتب السوداني فإن البطل يعاصر الراوي- الذي هو الآخر قد درس الدكتوراه في أوربا- بعد عودته من دراسته لفترة قصيرة ثم يترك له عائلته ومفتاح حجرته التي أخفى بها وثائقه وصوره وكل تاريخ حياته ليطلع عليها الراوي في الليلة التي سبقت غرقه لاحقاً بمصير بطله وبذات السبب.
بطل رواية ((بابا سارتر)) نشأ في أسرة أرستقراطية من أسر العهد البائد في العراق وهي الطبقة التي كان مجال التعليم والثقافة في منالها عهد ذاك فتفتح بذلك على الثقافات القادمة من الغرب أما بطل ((موسم الهجرة إلى الشمال)) فنشأ يتيم الأب ودخل المدرسة في السودان والقاهرة وتبنته أسرة إنكليزية منذ أن كان في الثانية عشرة فأنفقت على تعليمه ونهل منها الثقافة ثم سافر إلى إنكلترا لينال تعليمه العالي.
وإذا كان ((فيلسوف الصدرية)) قد أهمل دراسته راكضاً وراء العبثية الفارغة والسكر وبنات الهوى يساعده بذلك ماله ومحاولاً التمنطق بالفلسفة أمام امرأة احبها بعد أن ضجر بنات الهوى فإن فلسفته لم تمل قلبها ناحيته إذا إنها تعشق شخص آخر وتهاجر لاحقة به، فيقرر الفيلسوف أن يرتبط ((بجرمين)) الخادمة التي تخدم في بيوت الموظفين بإجور أسبوعية، لتكون زوجة له كبديلاً عن تعليمه الذي فشل به وحبه المقهور وأوهم لجمهور المرحب به لدى عودته للوطن بأنها ((إبنة خالة سارتر)) وليعلن عبارته الشهيرة مبرراً فشله في الحصول على شهادة الفلسفة: (( ما معنى الشهادة في عالم بلا معنى)). يومها أجابه أحد الحاضرين من مريديه مؤيداً ((هل كان سارتر فيلسوفاً بشهادته أم بفلسفته)).
وهكذا كان ((مصطفى سعيد)) كان يقرأ الشعر ويتحدث بالدين والفلسفة وينتقد الرسم ويقول كلاماً في روحانيات الشرق وجعل شقته أشبه بإيوان شرقي بجدرانه وأثاثه وفراشه وتحفياته وهو يزدان برائحة الصندل المحروق فيبهر ضيفته ويعدها بالزواج حتى تدخل الفراش. ومثلما فشل ((فيلسوف الصدرية)) في الحصول على مَنْ أحب فشل مصطفى محمود في الحصول على من رف قلبه لها وظل يلاحقها طيلة سنوات ثلاث وهي تهرب منه حتى ضجرت منه اخيراً ورضيت بالزواج منه إلا إنها لم تسلمه نفسها رغم إنها كانت تنام مع آخرين فيرى نفسه إنه ((الصياد الذي بات فريسة)) فينتهي الأمر به إلى قتلها ويحكم عليه بالسجن لسنوات عديدة يطوف بعدها عواصم شتى حتى يعود إلى بلاده لينعزل في قرية سودانية دافناً تاريخه في حجرة مكتبه بعيداً عن كل العيون.
بطلي الروايتين ينتهون بموت بظروف غامضة ففيلسوف الصدرية يموت إنتحاراً و يدرج الراوي قصتين حول ذلك ويميل إلى ترجيح احدهما اما ((مصطفى سعيد)) فهو يختفي أثناء حصول فيضان للنيل ولا يعثر على جثته وسط الجثث المنتشلة من النيل ويعزى الناس سبب ذلك إلى ابتلاعه من قبل التماسيح التي تنتشر في تلك المناطق.
والروايتين لا تنتهيان بموت البطل بل يتتبع الراوي للأحداث فراوي ((بابا سارتر)) يتابع قضية موت بطله مع مكلفيه بكتابة سيرة فيلسوف الصدرية ليجد أن موت جيل الوجوديين يتمخض عن أنسلاخ أحدهم-والذي كان يلازم البطل خلال حياته- وقد بدأ بتقليد ميشيل فوكو في صلعته ونظارته وجلسته ..داعياً إلى نشأة تيار البنيوية واراد الكاتب بنهايته لروايته ان يقول بإن هنالك تيار من المثقفين والذين يتواجدون في مختلف العهود ولا يخلو عهد من هذا النموذج الذي يتعلق بثقافة الغرب وقشوره ويتركون حقيقة الفلسفات لأنك من السهل ان تطبق القشور لكن الجوهر من الصعب تطبيقه لانه ولد بعيداً.
أما راوي ((موسم الهجرة إلى الشمال))فينهي روايته بالدخول إلى حجرة ((مصطفى سعيد)) الذي ترك مفتاحها له شخصياً قبل موته، ويطلع على كتاباته في الصحف وصور عشيقاته ومحاكمته ورسومه ومذكراته،قصائده، وقصة زوجته التي حولته من صياد إلى فريسة ثم يترك الحجرة ليغادر إلى النيل مع شروق الشمس ويظل عالقاً في النهر سابحاً حتى يجرفه تيار النيل.. إلى الشمال (نهر النيل هو النهر الوحيد في العالم الذي يجري من الجنوب إلى الشمال بخلاف باقي الأنهار) ويظل يصرخ طالباً النجدة..نهاية الرواية الرمزية هذه اراد بها الكاتب ما أراد صاحب ((بابا سارتر)) بان البطل والراوي الذين درسوا دراستهم في الخارج لابد من أن يتأثروا بأوربا الشمال وهو أن أبهرته بتقدمها فإنه لا ينال سوى القشور التي لا تسعفه في الخلاص من التيار.
عدنان يعقوب القره غولي
نشرت في العرب اللندنية في 6-9-2002