المهمة الأساسية في قراءة التاريخ هي أخذ العظة والعبرة والدروس مما حدث مع الأمم الماضية ومعرفة سنة الله في الكون وكيف أن النهضة أو السقوط يسيران وفق قوانين وضعها الله عز وجل ..
لم أكن من قبل مهتمّة بالتاريخ ولا يخطر ببالي أن أفتح كتاب تاريخ واقرأه .. اللهم إلا كتب السيرة النبوية ، وذلك لأني كنت أظن أن العبر تؤخذ منها فقط ، ولأن كاتبها غالباً ما يكون يقصد الله من وراء كتابه ويهتم ببيان ما وراء الأحداث من معاني وعظات مهتماً بتعليقها وربطها بالله وسنته في الكون .. وأن كتب التاريخ الأخرى هي دائماً كتب مملّة لن يتطرق كُتّابها لذكر فائدة أو مغزى إلا أنهم مؤرخين يقومون بنقل ما حدث بصورة بعيدة عن الدين ، وذلك لأن هذا الأسلوب هو أسلوب كتب التاريخ المدرسية قد اقترن في عقلي مع الملل ، فكانا متلازمين دائماً.. حيث كنت أعتقد أن كل كتب التاريخ ستكون على شاكلة الكتب المدرسية لا فائدة منها إلا معرفة ما حدث في المكان الفلاني بالتاريخ الفلاني ، يعني باختصار كان باعتقادي أن قراءة كتاب تاريخ " مجرد تضييع للوقت " أو مجرد ثقافة لا فائدة ترجى منها من الناحية الدينية .. لكن متى تغير هذا التفكير القاصر ؟؟؟
تغيرت نظرتي للتاريخ بعد أن تابعت مسلسل يتحدث عن الغازي ارطغرل والد عثمان مؤسس الدولة العثمانية .. مع أن الأحداث أغلبها من نسج خيال المؤلف إلا أن هذا المسلسل التاريخي هادف مصبوغ بالطابع الديني..
كانت نظرة تاريخية ممزوجة بروابط عقائدية ، تشرح التاريخ مع السعي للتوعية بأهمية التمسك بالدين لإصلاح المجتمع وربطه بربه ودعوة إلى الوحدة ونبذ الفرقة لمواجهة الاعداء ، ورَبْط الكاتب أحداث المسلسل بآيات قرآنية أو شواهد من السنة النبوية وتفسير سنن الله في الكون عن طريق إيجاد أمثلة لما حدث مع الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم بالوقائع الحاصلة أو التي ستحصل في زمان ذلك الغازي ..
من السهل جداً مقارنة ظروف المجتمع في ذلك الزمن بظروف مجتمعنا الحالي فكانت الأحداث الحاصلة في المسلسل هي عبارة عن حلول واعية مطروحة لمشاكلنا في الزمن الحاضر.
عندها أيقنت أن دراسة تاريخنا هي خطوة لإصلاح حاضرنا ، وتذكرت أن سنن الله في الأمم لا تتغير ، مع أن هذه المعلومة كانت مترسخة في كياني إلا أنها لم تبدُ لي بوضوحها كما بدت الآن ..
تشجعت وقررت أن اقرأ في تاريخ المسلمين في فتواحاتهم و انكساراتهم وفي انتصاراتهم وهزائمهم ، لأجد بعد ذلك أن التاريخ يعيد نفسه دائماً وأن الأمة عندما تطيع أمر الله وتسعى لرضاه وتستعين به ، تنتصر وتعلو ، وأنها حين تتكالب على الدنيا وتتبع شهواتها تسقط وتدحر ..
فكرت في البحث عن كتاب تاريخي اقرأه ، وكان أول من خطر في بالي هو الدكتور راغب السرجاني ، وذلك لما قرأت في الماضي له كتاب "كن صحابيا" ، ذلك الكتاب الرائع المؤثر الذي حفزني وأضاف الكثير من الأساسيات والقواعد والتعريف بالمنهج الاسلامي القويم الذي يجب علينا امتثاله كي نشبه الصحابة بأخلاقهم وقوة إيمانهم حتى فتحوا بها البلدان والأمصار ..
لذلك هرعت الى كتب الدكتور راغب لأنه يكتب التاريخ بأسلوب
دعوي وهذا ما أطمح إلى قرائته..
كان أول ما وقعت عيني عليه هو كتاب قصة الأندلس فتحمست لقرائته بسبب قلة معلوماتي عن تلك الفترة ، ولاعتقادي أن أسلوب هذا الكاتب غير ممل ويتطرق إلى بيان الحكم والدروس والعبر في كتابته للأحداث .. وكان ظني في مكانه ، ما أن بدأت بالقراءة حتى أصبحت لا أستطيع التوقف ، وصرت استرق من كل ساعة بضع دقائق لكي اكمل قرائته في خضم إنشغالي ..
لم أعتقد يوماً أني سأقرأ التاريخ بهذا الشغف من قبل ..
عشت في رحلة الأندلس بكل مرحلة بمشاعر الفرح والعزة التي كانت تتملكني في فترات النهوض ومشاعر الألم والتحسّر وأحياناً الغضب في فترات السقوط .
أكثر ما أعجبني طريقة الكاتب في الطرح ، فبالإضافة إلى أن الكتاب مقسم إلى عناوين وأبواب صغيرة تعين القارئ على إكمال الكتاب من غير أن يشعر بالملل ، فإنه قد بيّن رأي الشرع في كل من الأعمال التي قام بها الفاتحون أو الملوك ، وشرح سنن الله في الأرض وأسباب نصر الله ، وبيّن مواطن الضعف ومواطن القوة في كل عهد .. وهذا قلّما يتطرق إليه المؤرخون ، وهذا ما نحن بحاجته ..
ما أنهيت الكتاب إلا والدموع تتساقط على وجنتيّ ، ألماً وحزناً وتأسفاً على ما آل إليه الإسلام في تلك البلاد بعد أن بذل الفاتحون الأولون جهودهم ودمائهم وحياتهم من أجل إعلاء كلمته ، لتأتي النفوس المريضة الطامعة بالدنيا المتكالبة عليها وتهدم كل ذلك البناء العظيم وكل تلك الجهود الجبارة ، فتستحق عندها السقوط والزوال كسنّة جارية من سنن الله في كونه .
كان حزني أغلبه ليس فقط على ذلك العزّ الضائع وإنما بسبب تشابه واقعنا الحالي مع تلك الفترة، فالإسلام والمسلمين في حالة يرثى لها من الاستضعاف والذل ، وشباب الإسلام يلهث وراء الملذات وغارق في الميوعة والخنوغ ليس له هدف ولا طموح سوى تحصيل الشهوات والركون الى الملذات ، راضياً بواقعه الحالي لا يسعى خلف نهضة ولا يعرف معنى الجهاد ..فيا حسرتا على هذه الأجيال ، من أين سيأتي النصر ، وقلب الأمة في هذه الحال؟
قد عرفت الآن لماذا لم تكن الكتب المدرسية تعرض التاريخ بهذه الصورة المشرفة التي تعيد معاني العزة والشرف إلى الأجيال وتدفعهم إلى إعادة ذلك الماضي التّليد ، فهذا أبعد من الذي تبغيه ..
لكم تمنيت أن أرى الإسلام عزيزاً كما كان ، لكن النّصر ليس بالأحلام ولا بالتمني ولا بانتظار مخلّص يأتي ليجمع كلمة المسلمين ، النصر يكون بالعمل ، العمل الذي يبدأ من داخل النفس لينطلق إلى المجتمع كله فيكون يداً واحدة وجسداً واحداً..
أثق أن الله سيسخر لأمة الإسلام من يعيد مجدها - ولكلّ منا دوره في ذلك - من يوحدها و ينبذ عنها الفرقة والتّخلف ، ومن يمحو عنها الجهل الذي هو أعدى أعدائها ، الجهل بالدين ، والجهل بالأحكام الشرعية "الذي هو من عوامل سقوط الأمم "، ويبثّ فيها الوعي بحاضرها الأليم وماضيها المشرق .
أعلم أنه مازال في هذه الأمة الغيّور على دينه والسّاعي للتغير ، و المساهم بهذه النّهضة ولو بأبسط ما يمكن فعله عن طريق اتقان عمله والصدق في عبادته .. فالأمة ستنهض بالمخلصين المتّقين لله المحسنين إلى خلقه .
من يقول نحن ضعفاء ولا يمكننا عمل شيء، فأقول له : بلى يمكننا فعل الكثير ، كل منا له دور بما أقامنا الله فيه ، فانظر بماذا أقامك الله وأصدق معه و اسعَ وابذل جهدك في اتقانه ، كل رجل وكل امرأة هو خليفة الله في عمله الذي أقامه الله فيه .
إن كانت أماً فبتربية أبنائها على التّمسك بالدّين والخلق، تربيهم على أن يكونوا قادة وقدوات على أنهم أعضاء فاعلون في مجتمعهم وعليهم مسؤوليات ، لا تربية ميوعة ودَعَة وكسل ،
وإن كان مهنياً فبإتقان عمله ، وإن كان تاجراً بأمانته وصدقه ، وإن كان داعياً فبإخلاصه بدعوته إلى الله " لا دعوته إلى نفسه "وهكذا لجميع شرائح المجتمع ..
لا تستطل الطريق وابدأ بنفسك ، فما المجتمع إلا بالفرد ، فإذا بدأ الفرد بإصلاح نفسه صلح المجتمع كله .
وعندها سيقوم المسلمون من جديد .. وسنرى نصر الله القريب بإذن الله...