ولكن هذه العِزّة المستعلية المستقرة في جبهة حوت العنبر الكبير قد امتدت واتسعت، حتى إنك إذا حدقت فيها وأنت تواجه الرأس من أمام شعرت بالإله والقوى الجبارة هنالك بأكثر مما تشعر بها وأنت تنظر إلى أي شيء آخر في الطبيعة الحية. ذلك لأن نظرك لا يقع على شيء واحد إذ لا ينكشف له أي ملمح على حدة، فلستَ ترى أنفا أو عينين أو أذنين أو فما، لستَ ترى وجها، إذ ليس للحوت وجه محدد السمات، ليس إلا جلد عريض واحد يسمى جبهة، وقد غضّنتْهُ الألغاز، وكُتبت في أخاديده الصامتة مصائر القوارب والسفن والناس.
لقد فكَّ شمبليون معميات التجاعيد الفرعونية فوق جباه الجرانيت، ولكن أنّى لنا بشمبليون آخر كي يفك الأحرف الهيروغليفية في وجه كل إنسان وكل مخلوق؟ ما الفراسة إلا خرافة عابرة، كسائر علوم الإنسان. فإذا عجز السير وليم جونز - الذي كان يقرأ في ثلاثين لغة - عن قراءة أبسط وجه لريفي ساذج في معانيه العميقة المتوارية، فكم رجل مِن مثل إسماعيل الأميّ يرجو أن يقرأ الخطوط المسمارية الرهيبة على جبهة الحوت! إنني لأضع هذه الجبهة تحت أعينكم فاقرأوها إن قدرتم.
...
وكلما ازددتُ تأملا في هذا الذنـَب الجبار زاد أسفي لعجزي عن وصفه. فله في بعض الأحيان حركات وإيماءات صوفية لا تـُفسًّر، وإن الحوت حقا يتحدث بهذه الوسائل إلى الكون في ذكاء وفطنة. وحركات الحوت كلها حافلة بالغرابة، فكيفما أخذتـُه بالتحليل والتشريح لم أتجاوز في العمق سُمك بشرته! فأنا أجهله وسأظل أجهله أبدا. وإذا لم أعرف حتى ذنـَبه فكيف أفهم رأسه؟ ثم – وهذا أبلغ – كيف أدرك وجهه حين لا يكون له وجه؟ ويبدو لي أنه يقول: سترى أجزائي الخلفية، سترى ذنـَبي، أما وجهي فلن تراه! ولكني لا أستطيع أن أستبين أجزاءه الخلفية تمام الاستبانة، ومهما يقل هو عن وجهه فإني أقول ثانية أنه لا وجه له.
...
فقرتان من "موبي ديك" تخففان عني قليلا عناء وصف تلك الرواية المعجزة، وتنقلان صورة ما لعظمة روح الكاتب "هرمان ملفيل" ولرقي أداء المترجم الدكتور "إحسان عباس" ولغموض وروعة وسحر وإعجاز الحكاية في جوهرها قبل مظهرها. ولا نقد أصدق من تلك القشعريرة التي تغمرني منذ أنهيت - في مكتبة الإسكندرية - صفحاتها التسعمائة منذ قليل. أما عن النقد التفصيلي فإن أستعير كلمات "إسماعيل" الراوي: فكم رجل مِن مثل إسماعيل الأميّ يرجو أن يقرأ الخطوط المسمارية الرهيبة على جبهة الحوت! إنني لأضع هذه الجبهة تحت أعينكم فاقرأوها إن قدرتم.
أحمد الديب
يوليو 2011