نعم هي لذة كما قال .. لذة قراءة معاني الحوادث وتفاصيلها ، قراءة الحكمة المشفرة التي لن يفهمها إلا من راقب حركتها وتفكر في مسارها ، هي لذة شهود أن الرحيم العادل وراء أحداثها ، هي سكينة وراحة وطمأنينة لمن يملك الأمر .. قد تكون أقداراً غادرة في ظاهرها، لكنها ملئى بالرحمة في داخلها ..
هذه هي البصيرة التي نستشف عن طريقها الحكمة الإلاهية ونفهمها ، نحن لا نراها بالأبصار ولكن بالبصائر.
كتاب صوفي من النوع الثقيل ، وكما قال الدكتور مصطفى في المقدمة " هذا الكتاب لخاصة الخاصة الذين يحبون التأمل وليس للعوام الذين يقرأون للمتعة العابرة "
وهو شرح ونقل لتحفة (( المواقف والمخاطبات )) للإمام عبد الجبار النفري الذي عاش في القرن الرابع الهجري في العراق ..
في نفسي تناقض عجيب الآن ! لاأدري بمَ أقيّم هذا الكتاب !!
فمن جهة هو يحوي على نصائح ثمينة وبالغة الدقة في تزكية النفس .. ومن جهة أخرى لا استطيع التغاضي عن هذا الافتراء على الله وبث البدع التي ليست من كتاب ولا سنة..
هذا الكتاب أشبه ما يكون بالحكم العطائية إلا أنه على شكل خطاب من الله إلى الشيخ النفري .
على الرغم من أن الدكتور مصطفى برر له في مقدمة الكتاب ودفع عنه شبهة أن يظن القارئ أنه يدعي النبوة بأقواله ، لكن هذا التبرير لا يمكن أن يجعلنا نتغاضى عن الافتراءات.
كما ذكر الدكتور أن خطابه لعبده هنا من قبيل أن كل فعل هو من الله وأن كل إلهام هو من فعل الله ، فإلهامه من الله، فتكلم به عن الله ! فصار أشبه بالحديث القدسي! .. وغير ذلك من التبريرات مثل أن الرؤية الكبرى معناها رؤية القلب لا رؤية العين ..
ومع ذلك تأبى نفسي استساغة مثل هذه الكلمات ( الرؤية -الحضرة-الجمعية مع الله -الوقفة- قال لي ربي!! ) وغيرها من الألفاظ ..
بالنسبة للمحتوى فكل جملة تحتاج منك إلى التروي والتفكير والتكرار والسرحان في معانيها..قد فهمت أغلبها واستعصى علي بعضها لكن يبقي الإحساس ولو لم أفهم المعنى ..
ربما تشعر حيناً أن روحك حلقت عالياً بعيداً جداً إلى عالم ما فيه إلا التوحيد حيث لا أحد إلا هو ، ويصبح جسدك الملقى على أريكته؛ خاوياً ، بينما روحك هناك في الأعلى تعاني في صعود وتجاهد مع الشوق الذي يشدها ويسحبها لعلو .. ولكن النعم لا تدوم :( ستقاطع بصراخ أحد أو بأختك الصغيرة تدخل عليك بضوضائها :/ فتجد أن روحك قد هبطت سريعاً وكل شيء قد عاد لمكانه .. لكن يظل قلبك يرنو إلى هناك ، لمعاودة تلك الرحلة "رحلة التجاوز والعبور "وتتمنى أن تبقى فيها إلى الأبد..
وحيناً آخر أنت هنا مع عقلك في مقارنة لوضعك الحالي وما مر عليك وما تعلمت وما أجّج الكلام في نفسك من ذكريات المواقف التي تحس أنها كانت ملئى برحمته وأنت لا تدري.. .
ستجد أن أغلب هذه النصائح صحيحة وواقعية وصادقة وستعرف كم هي نابعة من قلب عارف موصول ؛ متعمق في فهم الإشارات من حوله وفاهم لحكمة الله من وراء كل ما يحصل .. فوراء كل شيء حكمة وعبرة وهدف ورسالة ، كل موقف وكل شعور وكل حالة تدعوك وتقول : انا رسالة الله لك فاعقل عني وافهمني ، تدعوك كلماته إلى المراقبة الدائمة والمشاهدة والتفكر في كل شيء، لا أن تعيش حياتك كيفما اتفق لا ترى حكمة ولا تفقه رسالة .. تدعوك إلى الإصغاء لكل صوت في داخلك وردّه إلى مصدره ومعرفه قصده ؛ هل هو من الله لتتعرف اليه؟ أم من نفسك فهو حجاب عن الله ؟
هي دعوة لا إله إلا الله ، لا نرى غيره ولا نتعرف إلّا إليه .. وإن كنا كأجساد وعقول مع الناس ؛ لكن القلب متوجه إلى الله، دائم الحضور معه .. هذا معنى الإحسان في العبادة "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك "..
أجمل فصل في الكتاب هو فصل " مايقوله الله لعبده " ، ففيه من روائع الفوائد الكثير ..
ومع ذلك عندما تقرأ كلام تقوّله انسان على الله عز وجل ، وإن كان مجازياً ستشعر أن فيه كسر لحاجز التأدب مع الله ، فهذه الطريقة تجعل في القلب انقباضاً ، حياءً من هذا الافتراء .. صحيح أن طريقة الخطاب هي ادعى للانتباه والتفكر ، لكنه أسلوب لا ينبغي أن يكون على لسان الخالق عزوجل . (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا )
الصوفية الموجودة في الكتاب هي الصوفية التي تدعو إلى ترك الدنيا ،وستعلم أثناء قراءتك أن الشيخ النفري ما ظهرت على لسانه هذه الحكم إلا وقد اعتزل العالم أجمع وسرح في ملكوت الله ، قد فارق كل شيء وكل أحد بل ربما قد فارق جسده أيضاً ، وستفهم أن صوفيته تدعو إلى السلبية وترك العمل ،والسعي وراء الغيبيات التي على المؤمن ألا يتطلّع إليها ولا يشغل نفسه في محاولة معرفتها.. فهذه الصوفية من النوع الذي يستنكره علماء أهل السنة والجماعة .
ربما يكون هذا الاستنكار كي لا يأخذ العامة بهذا الكلام ويميلوا به إلى الدعة و الكسل بحجة محاولة الوصول إلى معرفة الله ، أما الخاصة والأولياء الربانيين الذين عرفوا ما عليهم من واجبات دنيوية وعبادات وأدوها على وجهها وزكوا أنفسهم، فمن الممكن أن يتفضل الله عليهم بكرامات وأحوال لها أحكامها، لكنها مع ذلك ليست قاعدة .. وليست مدعاة إلى ترك العمل والسعي والأهل والولد ، وليس لكل ولي له كرامة ، وليس هناك درجة تصل فيها إلى مكان "حيث لا أمر ولا نهي"!!! كما قال .
إذا هل ما قاله في الكتاب ممكن ! أم أنه أوهام صوفية ، هل يستطيع إنسان أن يصل لهذا المقام ؟ هل وصل الأنبياء لهذا المقام أم هو تخيلات وأحلام نسجها إنسان في كهفه الذي اعتزل فيه؟؟
ولو كان ممكناً لماذا لم يذكر لنا رسول الله أو الصحابة الذين هم خير الخلق بعد الأنبياء شيئاً عنه ؟؟
لقد حذرنا رسول الله من البدع في الدين ، فعلينا ألا نأخذ إلا ماورد بكتابه وسنة رسول ، وإذا ما حصل مع مؤمن شيء من الكرامات فلا ينشرها بين الناس فهي بينه وبين ربه ..حتى لا تحصل فتن أو خلط أو تؤخذ كحكم..
لذلك لا أنصح بأن يقرأ هذا الكتاب من ليس لديه العلم الكافي أو من يسهل عليه التأثر بأي كلام ، لأن مايذكره قد يكون فيه من سحر العبارة ما يجعلك تسعى للتجرد من واقعك وإجهاد نفسك لتصل بالروح إلى شيء لم يأمرنا الله ولا رسوله بمحاولة الوصول إليه..
ما احتوى الكتاب من أحكام يعتبر من أدب الأولياء العالي، إلا أنه في مرحلة ما ستعرف أن هناك أشياء غير ممكن أن تحصل "شرعاً " وليس عقلاً .. فهناك حدود وضعها الله لم يتجاوزها رسول الله ولا أحد من الأنبياء ، حتى يستطيع النفري تجاوزها! .
خرجت من الكتاب بالكثير من الفوائد والدروس.. وأغلب هذه الفوائد تحوم حول محور التوحيد و التخلي عن الأنا والذات ، أن تتجرد منها فهي الحجاب وهي الابتلاء ، فكل شيء هو من الله وبيد الله ، وكل عمل خير هو من فضل الله ، فإذا تجردت من نفسك ومن كل شيء إلا الله ؛ فأنت في أول طريق إلى التزكية والقرب ..
تعلمت أنه كلما ارتقت نفس المؤمن كلما أخذت بالعزائم أكثر .. وفي الكتاب من دقائق الآداب ما يُعجب له ، كيف وصل إليها بل كيف استطاع ضبط نفسه بهذا الشكل المعجز، إلا أنه بلغ في معرفة النفس وسبر أغوارها ومداخلها ومخارجها دقة متناهية تعجز عن فهمها العقول بل وتتعب في مبتغاها الأجساد!!
ما وصل لهذا المقام إلا أنه حكم نفسه ولم تحكمه ، وتحكّم في خواطره وواردات عقله ولم تتحكم به ، ضبط مشاعره وتغلب على هواه واحرق لذّاته في نار الشوق إلى الله ، وتجرد من كل شيء ..
أما بالنسبة للدكتور مصطفى محمود فقد قدم للكتاب بمقدمة ساحرة ، غاية في الروعة!! و أبدع في فهم منهج النفري وتلخيصه ؛ في تعقيب له في خاتمة الكتاب. كما قام بشرح بعض الكلمات ووضع شرحه بين قوسين ليتم تفريقه عن كلام الكاتب .
إذاً فقد قررت أن أحذف نجمتين من التقييم بسبب تجاوزات الكاتب ، لم أستطع إجبار نفسي على حذف أكثر من ذلك بسبب الإبداع والدقة التي اتصفت به كلمات النفري ..فمن خاض في بحر كلماته لن يستطيع الخروج منه بتفسير ولا تأويل ..
مع أن النفري قال " كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة " إلا أنني أرى أن عباراته واسعة لدرجة أنك لن تستطيع حصرها في معنى أو معنيين ، فكلما أعدت القراءة كلما فهمت شيئاً جديداً .
فسبحان من أعطى عبده هذه البلاغة ..