أول كتاب أقرأه لعبد الوهاب المسيرى ... يتحدث المجلد الأول عن العلمانية ونظرياتها ... الكتاب مركز على أنه يوجد نوعين من العلمانية (دائرة كبيرة داخلها دائرة صغيرة) ... العلمانية الجزئية اللى ممكن توضيحها بمعنى (الفصل بين السلطة الدينية وآليات السياسة والإقتصاد ... مع الاحتفاظ بهوية وروح الدين) والعلمانية الشاملة بمعنى (فصل هوية وروح وقيم الدين تمامًا عن المجتمع)
طبعًا الفرق بين التصنيفين واضح تمامًا ... وإن كان الكاتب مركز جدًا على التعريفات الغير واضحة وغير محددة للعلمانية لكثير من فلاسفة الغرب والشرق ... كمبتدئ فى المجال الرغى كتير حوالين نفس النقطة خلانى أشك بعد فترة فى الكلام ده ... وخصوصًا انه نسب عيوب كتير للحضارة الغربية الحديثة والتى توغلت فى بلادنا أيضًا للعلمانية الشاملة ... عيوب زى دور الإعلام فى نشر ثقافة معينة من خلال جعل المبادئ والقيم والأخلاق مع الوقت نسبية وجعل الدين يبدو ككيان ملئ بالخرافات وغرس مفهوم نسبية كل ما كان يعتبر من الثوابت ... الكتاب عميق جدا وبيتكلم عن عيوب مهمة فعلا اكتر وأعمق من اللى هاقدر افتكرهم واعبر عنهم
فى البداية كنت بدأت أشك فى عرض عبد الوهاب المسيرى للعلمانية الشاملة ومدى تغلغلها فى ثقافة ابناء الحضارة الغربية (وفينا احنا كمان مع الوقت كناس بنحاول نبقى مثقفين) وفكرة أخطاء كثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع فى وضع تعريف واضح للعلمانية ... بس بدأ يدخل فى كلام آخرين من الغرب والشرق وطريقة ربطهم كل ده ببعض
عموما مش ده الاشكال ... الفكرة انى كنت متوقع من البداية اننا هنلاقى مراجعات ايجابية جدا للكتاب (من إسلاميين غالبًا) بطريقة (كتاب صح جدا ومافيهوش غلطة ويشرح فى الكتاب ويفصصه) ومراجعات سلبية جدا من علمانيين حاسين ان معتقداتهم بتتهاجم ويدافع وكده ... صراحة الكتاب مقنع فعلا فى انه يربط التاريخ بالفلسفة وبعلم الاجتماع وكلام كثير من الفلاسفة المشهورين والذين نتشدق بأسمائهم ليل نهار وبشكل يدل على عقلية فاهمة هى بتتكلم عن إيه (وطبعًا ده صعب جدًا تلاقيه بين كتير من الفلاسفة المشهورين فى بلادنا)
عمومًا الناس اللى عاملة نفسها مثقفة وفاهمة عندنا كتير جدًا ... مش باتكلم عن موضوع ان إيدولوجيتهم موافق عليها وللا لأ ... بس موضوع إلمامهم بتفاصيل تفاصيل الأيدولوجيات وجوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية ... إلخ (الكتاب مدخلش فى آليات سياسية وإقتصادية ... الكتاب فلسفى وعلم إجتماعى أكثر)
هافهمك أكتر ... لو عملنا اختبار لكل مثقفى العالم لتحديد مدى فهمهم التام لأيدولوجياتهم والأيدولوجيات التى يعارضونها هتلقاى كل سكان العالم جابوا صفر (وأولهم أنا ... بدليل إنى مش عارف افتكر وأناقش الافكار اللى فى الكتاب ده) ... أغلبنا مش ملم تمامًا بالأيدولوجيات التى نؤمن وننادى بها أو مش فاهمين أى حاجة عن الأيدولوجيات التى نعارضها
ده موضوع جانبى ... المهم ان الكتاب أنا شايفه صح فعلا فى أغلبه إن لم يكن تمامًا ... وطلع إن كلنا بالضرورة علمانيين بشكل ما فى أسلوب تفكيرنا
أعتقد إن عدم الإلمام بمحتوى هذا الكتاب حتى لو علمته من مكان آخر هو شئ خاطئ ... خاصة وأنت بتفكر وتتكلم فى السياسة
ممكن هتلاقى علمانيين ليبراليين بيقولوا إن المجتمع الغربى المتقدم مافيهوش فقدان معيارية تمامًا ... لسه فى أخلاق وقوانين والبلا بلا بلا بتاعتهم ... بس لو فكرنا هنلاقى إن الحدود دى بتقل فعلا ... وده إثبات إن الليبرالية إذا كانت نتاج الفكر العلمانى الشامل وآخر خطوة قبل "الحتمية التاريخية" اللى تنعدم فيها القواعد تمامًا ... بس كون الليبرالية هى الخطوة الاخيرة (قبل) اليوتوبيا العلمانية فتظل متمسكة ببعض القوانين ... بس أنا أعتقد إن الوقت اللى نلاقى فيه مطاعم بتقدم لحم بشر موتى تم إخارجهم من قبورهم لتقديم اللحم البشرى لمحبيه ... آكل لحم البشر حر ... مادام لم يقتل ولم يؤذى بشرَا ويعتمد عل لحم أناس هم موتى مسبقًا بدون تدخل منه فلا تحاول أيها الهمجى أن تتدخل فى حرية شخص يريد أن يأكل نوعية الطعام التى يفضلها ... لو حد رفض حاجة زى كده غالبًا مش هيكون لدواعى أخلاقية وإنما أشياء تتعلق بحق أهل الميت فى الاطمئنان لكون الميت مدفون بشكل لائق ... حتى حق الانسان فى أن يدفن عند موته بشكل لائق ممكن نلاقيه اختفى
عبد الوهاب المسيرى معترض بشكل كبير على العلمانية الشاملة ... غالبًا معندوس أى اعتراض على العلمانية الجزئية ... وده يخلينى أقول إن ممكن إسلاميين كتير بعد ما يقروا الكتاب يعارضوا العلمانية لأسباب فى حين أنهم قبل علمهم بما فيه كانوا بيعارضوه لأسباب تانية خالص ... غالبًا الأمر متعلق بعلمه الناقص أو جهله المطبق بمعنى العلمانية
هنلاقى علمانيين بيعترضوا على كل الكلام عن نسبية القيم الاساسية الإنسانية اللى ابتدت تنتشر تدريجيا وتدهور الجانب من الانسان اللى بيخليه يختار الصواب والخطأ بدلًا من البحث عن مصالح شخصية أو آلية تنفيذ المهام بغض النظر عن الهدف منه أو الجانب الانسانى منه ... هنلاقيهم بيقولوا إن كل ده خطأ ... الأمر محتاج إنك تراقب علمانيين حقيقيين سواء مثقفين بشكل قوى أو لأ وليهم موقف يميل لرفض الأديان لفترة كافية ... الكلام بيحصل فعلا بشكل تدريجى حتى لو بشكل لا إرادى من صانعى القرار والمتحكمين فى الأحداث
طب إيه المشكلة؟ بالنسبة لى إن كل العيوب اللى مذكورة فى الكتاب قد لا تكون عيوب بشكل كامل ... بدأت أصدق بنسبية كثير من الأمور أو كونها مجرد تخاريف ... ثوابتى بدأت تضعف بأدلة تبدو قوية نوعًا ما ... فهو مأثبتش ليه القيم الانسانية مهمة!!!
الكتاب مهم ... ممكن بعديه على مر السنين أقرأ كتب أقوى منه (وإن كان ده صعب شوية) تتعلق بالسياسة بشكل ما ... بس الكتاب ده أعتقد مهم إنى افضل فاكر محتواه واقارن نظرياته بما يحدث فى العالم من حولى