إن من حوادث القدر أشياء لا نفهم وجه الحكمة فيها،و هي الحظوظ والأقسام؛فذلك صحيح في نفسه بمقدار ماهو خطأ في أنفسنا،و الشذوذ فيما يقع من حوادث الدنيا وفيما نشهد من تصاريف القدر أمرٌ معلومٌ،لماذا لا يكون قاعدةً لأشياء نجهلها مادمنا نجهل الغيب كله ولا نعرف منه شيئاً؟، ما رأينا قطُّ في تراكيب هذا الكون المعجز شيئاً خارجاً عن موضعه،ولا شيئاً زائداً في موضعه،فلم نظُن مثل ذلك في الجهة التي تتصل بنا من حكمة الله،جهة السعد والنحس. بُنيَّ إنما قُرِّبَت النعمة من فُلان لأن القدر يسوقُها إليه،و إنما بعدت النعمة عن فلان لأن القَدر يسوقها إلى غيره،و إذا أراد الله أمراً هيَّأ أسبابه،فربما سعى المرء بكل سبب فلم يفلح،ثم يقع لهُ سبب لم يمتهِد له وسيلة قطُّ فإذا هو عند بُغيته،و إذا هو قد ملأ يديه مما قد كان يئس منه،فلا يكون عَجبهُ كيف خاب في الأولى بأشدَّ من عجبه كيف نجح في الثانية. و هذا هو مظهر إرادة الله،فإن صادف من بعض النفوس الضعيفة حسداً أو غيظاً أو سُخطاً أو منافسةً أو من نحو ذلك مما يكون مظهراً لضعفِ الإيمان في النفس،تحوَّل المعنى إلى لفظ يحمل كل هذه العواطف الوحشيَّة،فلبئس الكلمة تسلب الإيمان قوة نفسه،و تكادُ في إبهامها تسلب الأقدار قوة الحكمة ايضاً، وهي كلمة: الحظ ألا ترى أن أحداً من الناس لا يتعلل بهذه الكلمة ولا يحتج بها ولا يسكُن إليها إلا من غيظٍ أو سخطٍ او حسدٍ أو عجز،أو ما هو بسبيل من هذه المعاني .
في حضرة الرافعي تنتفي الطرق التقليدية للقراءة، تلك التي نمارس فيها عدًا ميكانيكيًا للأوراق بُغية الوصول السريع إلى الجهة الأخرى للكتاب، نتقافز فيها فوق الأحداث، لكن هنا أنت مجبرًا أن تسير متهملًا حذرًا مع كل كلمة، إن لم يكن بسبب كلماتها الرصينة، فقد يكون بسبب المعنى الذي لا تتيحه لك قراءة الفقرة لمرة واحد، قد تعيدها لأكثر من مرة كي تصل لأقرب معنى يريده. التجربة الثانية لي مع الرافعي بعد كتابه "أوراق الورد"، ومع كلّ لقاء يتجدد بيننا، أشعر أن هذا الرجل ارتقى صعودًا إلى أعلى درجات الفصحى، وأتى بأجل نفائس العربية، فانقادت له وطيعت له يشكل منها كاتباته كيفما يشاء، فرأينا منه الوجه الجميل للغتنا العربية، التي تسحرك بعذوبتها. هذا الكتاب الذي بدا لي أول ما شرعت في قراءته منذ عامين عصيًا على الفهم بسبب كلماته التي رأيتها شديدة الصعوية نظرًا لأن الرافعي وضعها في أصداف من الفصحى التي لا يتعامل معها بسهولة، ولهذا السبب قرأت منه 50 صفحة فقط وقتها لأعيد قراءته من جديد مصممًا ألا أدعه يمر دون أن أجهز عليه. الكتاب يلخص فلسفة الحياة كما رآها الرافعي وكما يحب أن يراها الناس، يتحدث عن معاني الفقر والغنى، والحب والكره، وكل ما يتصل بهم، ومدى اختلاف تلك المعاني عند عموم الناس الذين خالطهم، فكأن الناس جميعهم في نظره مساكين لأن الأحياء في الحقيقة ما هم إلا مساكين، إما مخدوعون بالغنى أو مُعذبون بالفقر "فالناس عبيد أهوائهم، وأينما يكن محلك من هذه الأهواء فهناك محل اللفظة التي أنت خليق بها، وهناك يتلقاك ما أنت أهله أو ما يريدون أن تكون أهله، وليس في الناس شيءٌ يزيدك كمالاً من غير أن يزيدك نقصاً، حتى إيمانك فإنه كفرٌ عند قوم، وحتى عقلك فإنه سفهٌ لطائفة، وحتى فضلك فإنه حسدٌ من جماعة، وحتى أدبك فإنه غيظٌ لفئ".
“إن أفقر الفقراء ليس هو الذي لا يجد غذاء بطنه، ولكنه الذي لا يستطيع أن يجد غذاء شعوره، فلا تحسبن أن مع جنون الضمير وجفوته ومرضه سعادةً وراحة، لأن لذة المال لا تتجاوز الحواس الظاهرة فهو يبتاع لها كل شيء مما تشتهي ولكنه لا يستطيع أن ينيل القلب شيئاً إلا إذا جاءه بالخير والفضيلة، والغني الذي يمنع الفقراء ماله قد يزيد فيه ولو فرضاً بمقدار ما يمنع... بضعة دراهم، أو بضعة دنانير،، ولكنه يزيد ضميره جفاء بالقسوة والغلظة ونسيان الفضيلة، ولا يزال على ذلك حتى يمر به يوم يفقد فيه ضميره كل شعورٍ بالخير فيفقد معه كل شعورٍ بلذة النفس التي هي أقرب المعاني إلى معنى السعادة”
“ومن الأسئلة في هذه الحياة ما يولد حين يموت جوابه كما رأيت.. فهو حمق من السائل ومضيعة لأنه لا جواب عليه.. وربما اعتده الأحمق معضلة من المعضلات وكدّ ذهنه فيه وقصر همّه عليه وجعل يلقى به الناس ويفتح له الأحاديث، وذلك سخف لا يوجد به الجواب الصحيح ولكن يضيع فيه السائل.. إذ يستنفذ من وسعه وعمله وحيلته ثم لا يرد عليه من كل ذلك سوى الخيبة”
“و أشقى النّاس من يتوقع الشقاء و هو لا يعلم من حاضره ما الله صانعٌ به، و لا من مستقبله ما الله قاضٍ فيه، و كأنّه يتظنّى بالله فيرى أنّه_تعالى_ قد وكله إلى نفسه و أيأسه من رحمته و صرف عنه تيار الغيب المتدفّع بالحوادث و الأقدار بين شاطئ الليل و النهار، فلا يدفع إليْه جديدًا و لا يصرف عنه قديمًا و كأن الزمن كله يتحرك و هو ثابتٌ قار قد حصره الهم من هذا الفلك في زاوية؛ و وضعه الدهر من بيت الأحزان موضع القافية، و المصيبة في مثل هذا أكبر من كل شيء لأنها لا شيء، و لا ينفع المرء أنّه من الناس إذا لم يكن من نفسه، و هذا لا نفسَ له أو كأنه لا نفسَ له، إذ لا ثقة به و لا قوة فيه، و لو كان وجهه جلدةً مما بين عيني الأسد لما ظهر إلّا جبانًا، و لو اختلط الحاضر بالمستقبل على شيء لما اجتمع منهما ما يجتمع من غضون جبهته في تعاسته التي يظن أنه خُص بها؛ فهو يتوهم الخوف، ثم يخاف مما يتوهم، ثم يخاف أن يكون الأمر أكبر مما توهم، ثم يخيفه أن تخذله الأقدار فلا يقوى على ذلك، ثم يكون أشد خوفه من أن يستمر له ذلك.. فمن خوف إلى خوف، و هو تتابعٌ يصور الرِّعدة التي تعتريه لجبنه كما يصور ضحك القهقهة من هذا الجبن"