قصص الانبياء لابن كثير - لونان

(في إحدى القرى الصغيرة ..كانت جدتي توقظ الفجر كل صباح، فتذكر الله وتتلو وحيه الكريم..ثم تتوالى عليها نساء رقيقات الحال ..تخبز لها إحداهن وتغسل لها الثانية بينما تنظف لها الأخيرة المنزل الكبير لتحسدها الأخريات من النساء.. فيرد جدي الشيخ الأزهري فخوراً : إن امرأة جميلة تتلو القرآن وتحفظ خبر الأنبياء ، هي الأحق بالدلال لا مراء) ..هكذا أخبرتني أمي وهي تمنحني قصص الأنبياء للأطفال..وهكذا كنت صغيرة أتبعها بحماس من الغرف إلى المطبخ وحتى باب الحمام لأقرأها عليها جهراً وغاية طموحي هو مديح وقبلة...وهكذا صرت كبيرة أعزل نفسي عن رتابة الهباء من حولي وأعتزل الجرائد والنزه لأقرأها سراً وأقنع نفسي : نزهتك الآن مسرى إلى الأنبياء ..لقيا بهم عليهم الصلاة والسلام.. و طموحي فجأة صار معراجاً إلى السماء!!

كلوحة نظرت إليها من أعوام فلم تلحظ إلا رسم الشجر ..ثم مررت أخرى فهالك مزيج الألوان في الثمر ولكن عند مرورك الأخير لم تبرح عينك الإمضاء عند زاويتها فأدركت حينها فقط الرمز في كل ذلك ...هذا شأنك مع قصص النبيين ، ففي كل عقد من عمرك سيكون لك عبارة ومشهد تطول عنده وقفتك قبل مرورك الأخير باسم المبدع خلقا ورواية فتبارك الله العلي القدير.

منهجية الإمام الحافظ ابن كثير في السرد جديرة بالإحترام.. فأولويته كانت صدق المقال ..وحيث أن ليس أصدق من الله قيلاً فلقد كان يستفتح قصة كل نبي بجمع لكل الآيات الواردة في شأنه من القرآن الكريم قبل أن ينتقل بك إلى الصحيح من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الحسن والضعيف وينتهي بما ورد عن (كعب الأحبار) من كتب أهل الكتاب ثم يسرد الإسرائيليات متواترة مبيناً ما اتفق منها مع الكتاب والسنة او ما اختلف عنها تحريفا ومبالغة ..ولقد كان حريصا على ذكر هدي الرسول (ص) في اجتناب الأعتماد عليها في التأويل فقد تكون حقا فنكذبها أو باطلا فنصدقها ..وعليه يكون الصمت في شأنها أفضل ...فقط لم يرقني ما تكرر من حديث الإمام عن أهل الكتاب ممن حرفوا ما أنزل الله ، لاعناً لهم في حين و واصفاً إياهم ببعض البهائم حيناً آخر ...وبالرغم من أنه لم يورد حديثاً واحداً عن رسول الله (ص) يتحدث فيه بمثل ذلك فيقتديه....وبالرغم من جزيل شرحه للرحمة وأدب الدعوة في وصية الله لموسى وهارون عليهما السلام عند لقاء فرعون بقوله سبحانه: ((فقولا له قولاً ليناً .لعله يتذكر أو يخشى)) بالرغم من ذلك لم يترك قسوة الخطاب في بعض العبارات ..وضيقي هذا ليس نابعا ممن رأى لنفسه مقاما أعلى من ابن كثير رحمه الله.. .(العفو)...بل هو على الأغلب ضيقا ممن خلفوه فقرأوا له زاهدين في كل جميل سرده ومضاعفين لكل هجاء خطّه بما صار لا قِبل لنا بردّه... عدا ذلك وجدت الإمام ابن كثير كما أخبرونا عنه في مدرستي : (من أراد التاريخ فليقرأ لابن كثير فهو يجيد التفاصيل ولا يكذب) رحمه الله.

نهرٌ جاري هذا الكتاب ..وهذا بعض ما اغترفت يداي:

كتب الدكتور سلمان العودة مرة (شجرة آدم هي حدث يتكرر في حياتنا كثيراً) وصدقا قال..فقصة آدم كلها هي مذكرات البشرية منذ الابتداء ويومياتها حتى الختام ..يقول رسول الله (ص): ((يجمع الله الناس فيقوم المؤمنون حين تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح لنا الجنة، فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم)) وقوله (ص): (( فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة (اي يجري)، فأخذت شعره شجرة فنازعها ، فناداه الرحمن عز وجل ّ : يآدم مني تفر ؟؟ فلما سمع كلام الرحمن قال : يارب لا ولكن استحياء)) ..أنا وأنت ورثنا الخطيئة لامحالة .. علينا فقط أن لا ننسى من أبانا انكسار العاصي ...وإن لم نستطع خيراً لأنفسنا قط ، فلنبق لها ميراث الحياء.

((مكث آدم في الجنة مئة عام وفي رواية ستين وبكى على الجنة سبعين عاما وعلى خطيئته سبعين عاما وعلى ولده حين قتل أربعين عاما ))و عاش ألف عام ((حتى رأى من ذريته (40 ولدا) وأولاد أولاده أربعمائة ألف نسمة )) وتوفي يوم جمعة ((وبكت الخلائق عليه سبع أيام))... انظر هول الفارق بين بكاءك لنفسك وبكاء الآخرين عليك ..يا الله !! كم تعيس هو من ظن أن سيذكره أحدا سواك يا رب

في قصة هابيل وقابيل الشهيرة ستذكر وصية نبيك الكريم (ص) بأنه إن كان لابد بين الأخوة قتال فكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل ..وستدرك أنها ليست وصية بضعف ..بل دعوة إلى جنة .

ستعلم سيرة أنبياء لم تكن تعلم عنهم شيئا من قبل كنبي الله (شيث) و تعني (هبة الله) فهو عوض الله لآدم في ابنه القتيل ومن قام بالأمر من بعده... ويقال((أن أنساب بني آدم كلها تنتهي إليه وسائر أولاد آدم غيره انقرضوا وبادوا ))وستعلم عن نبي الله (يوشع بن نون ) وهو الذي دخل ببني اسرائيل بيت المقدس بعد وفاة موسى وانقضاء سنين التيه والعقاب وهو نفسه فتاه في سورة الكهف ومن بعده (أرميا ) الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه ليرى حياة القرية بعد الخراب وقيل هو (العزير) وكذلك النبي (حزقيل) وهو من القوم الذين هربوا من الطاعون وأخبر الله عنهم قائلا(( ألم ترى إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون )) وغيرهم عليهم السلام .

وربما ستعرف جديدا عن أنبياء كنت تعرفهم من قبل مثل أن إدريس هو أول من خط بالقلم وهو الجد الثالث لنوح والذي كان مولد الكفر والوثنية مع قومه بعد عشرة قرون صالحات منذ آدم وأن هود هو أول من تكلم العربية وقيل اسماعيل واول من ارتحل إلى بيت المقدس هو ابراهيم وهو اول من اختتن من الرجال واول من شاب رأسه وأن شعيب هو خطيب الأنبياء وكان ضريرا من كثرة البكاء عليهم الصلاة والسلام.

هذه هي المرة الأولى التي انتبهت فيها إلى تكرار هذه العبارة على لسان النبيين في الآيات التالية فجمعتها ..يقول الحق سبحانه على لسان نوح ((يا قوم لا أسألكم عليه مالا إن أجري إلا على الله)) وعلى لسان هود((وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا على رب العالمين)) ويعيدها ذاتها بنفس لفظها النبي صالح لقوم ثمود ولوط مخاطبا قومه وشعيب لأصحاب الأيكة في سورة الشعراء.. ثم وجدت فجأة عقلي ينير بنداء الساعي من أقصى المدينة( حبيب النجار)والذي رجمه قومه بعدما دعاهم كما جاء في سورة يس ((قال يا قوم اتبعوا المرسلين . اتبعوا من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون)) فسعدت بالاكتشاف وكأني فجأة عرفت صفة واعظ الحق ..الأحق بالاتباع ..ولابد التكرار هنا يعني ان الله يقول هذان الشرطان هما العقد بين التابع والمتبوع ..ومتى اختل انفسخ عقد التبعية ..وبعدما أخذت في قياسها على وعاظ يومنا لم أجد إلا من ان انطبق عليه الشرط الأول لم يوفي الثاني ومنهم من فقدهما مجتمعين .فذكرت نداء الساعي مرة أخرى حين قال ((المرسلين)) فعلمت أن الأمر لم يعد له بقية بين الأحياء وأن عليّ السير خلف أثر الميتين ..فأنا إذن في المكان الصحيح.

عجبت لقسمة أعمار الأنبياء فنوح الذي نجر السفينة في مئة عام مع السخرية والشقاء عاش ألف سنة إلا خمسين عاما بينما سليمان الذي طويت الأرض تحت بساطه وسخر له الجن لو أراد الدنيا لأتوه بها في طرفة العين عاش (نيفا وخمسين عاما فقط ) وكأنها قسمة على قدر العناء .والله أعلم.

للزمن قسوة كفيلة بتهشيم كل شئ حتى هول المعجزات فعندما رأى قوم صالح الناقة تخرج بوليدها من الصخر لتكون لهم آية فكانت ((تشرب ماءهم يوما ويشربون لبنها يوما ))عقروها وجحدوا..تستطيع قتل هيبة كل مظهر بطول الأمد.. ليبقى الاعجاز الحق ان تظل موقنا رغم مروره.

قوس قزح ليس جميلا لبهاء منظره فقط فهو أيضا ميثاق آمان .ففيما ذكر أهل الكتاب أن بعد خروج نوح عليه السلام مع بنيه ومن في السفينة ((ابتنى نوح مذبحا لله عز وجل وأخذ من جميع الدواب الحلال والطير الحلال فذبحها قربانا إلى الله عز وجل وعهد إليه ألا يعيد الطوفان على أهل الأرض وجعل تذكارا لميثاقه إليه القوس الذي في الغمام وهو قوس قزح الذي روي عن ابن عباس أنه أمان من الغرق ))

الأب أب وإن كفر ..فيروى ((أنه لما صار ابراهيم عليه السلام في ميل الجوبة حوله النار(لخمسين يوما ) وهو في روضة خضراء والناس ينظرون إليه . يقول أبو هريرة أن أحسن ما قال أبو إبراهيم لما رأى ولده على تلك الحال : نعم الرب ربك يا إبراهيم!! )) وقال الخليل: ((ما كنت أياما وليالي أطيب عيشا إذ كنت فيها .وودت أن عيشي وحياتي كلها مثل إذ كنت فيها عليه السلام)) فبعض الجحيم نعيم فقط لو أراد الله.

عندما يكثر على الأرض أبناء الملوك والصالحين فيخلق الله من لا أب له روحه وكلمته ..وتعمر الأرض بفنون الخطابة بمصر فيكون معقود اللسان كليمه ..وتزدهر الأرض بحضارة الفرس والروم فيختار أمة من البدو لتكون خيرهم ..ويصطفي الأميّ (ص) من كل العالم ليكون مسك النبيين وحامل كتابه الأخير إلى يوم الدين ...عند ذلك ستعرف عن الله شيئاً..فمعايير القربى عند الله مختلفة عن ما نعرف...ولكنها تستند إلى مبدأ واحد هو( شيوع الخير) ..يقول ابراهيم محدثا ملك الموت : ((فبم اتخذني ربي خليلاً؟ قال : بأنك تعطي الناس ولا تسألهم))عليهم السلام.

عند قراءتي لقصة يوسف عليه السلام كنت أحمل في نفسي عتبا لا أصرح به من أمر يعقوب او (اسرائيل )عليه السلام لتفضيله بعض ابناءه على بعض فأوغر صدورهم وصار ما صار ..ثم عرفت انه ربما كان للامر تاريخ فلقد كان اسحاق عليه السلام يحب ابنه الأكبر (العيص) أكثر من (يعقوب ) وهو الأصغر والأضعف فربما بقي في نفسه أثرا من ذلك كما أنه لم يحب إلا (راحيل) وعمل من أجل زواجها سبعة أعوام فلما زوجه ابوها اختها الكبرى عمل سبعا أخرى من أجلها فولدت له الكبرى تسع ذكور وظل يرتجي منها هي الذرية حتى ولدت له يوسف وبنيامين عليهما السلام.

قصة موسى عليه السلام هي أطول القصص وقومه هم أغيظ الأقوام بلا منازع ووددت لو كان في الوقت والمكان متسع لذكرت شيئا من غلظة ماديتهم بالرغم مما لقوه من وراءها في ماضيهم..و لعل أدق الكتب وصفا لهم هو كتاب (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للكواكبي ..كما أنها كانت المرة الأولى التي أرى فيها فرعون رجلا أحمق أكثر منه جبارا ولو كان له حياة بيننا لكانت مقاطع تصريحاته الغبية تملأ السمع والبصر ..وعلمت أن تعلقه بآسيا رضي الله عنها كان فقط لانها من أدرك هذه الحقيقة وعامله على أساسها ..ولك مثلا هذه القصة : (( انه عندما حمل فرعون موسى عليه السلام وليدا أخذ موسى بلحيته (أي جذبها) وهمّ بقتله فخافت عليه آسيا وقالت : إنه طفل فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه (اي أنه لن يعقل الفرق بين الاثنين) فهمّ بأخذ التمرة فصرف يده إلى الجمرة ووضعها على لسانه فأصابه لثغة بسببها)).

أدرك الآن أني كتبت أكثر مما ينبغي لمراجعة كتاب ولكني لم استطع كف يدي عن كتابة هذ المقطع ((فذكر ابن الحكم في تاريخ مصر : أنه منذ ذلك الزمان (اي انطباق البحر على فرعون ومرؤسيه) تسلّط نساء الأمراء والكبراء اللاتي تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم ، واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومنا هذا)) 

وافهم الآن ما كان يعنيه محمود درويش حين قال: ((والأنبياء جميعهم أهلي ولكن السماء بعيدة عن أرضها وأنا بعيد عن كلامي))

كتاب رائع.. لم أكمله بعد.. لكن يروي الكثير من القصص الموثّقة بالسند الصحيح ويروي فضول النفس لمعرفة خبايا هذه القصص!

كتاب جدا جميل يسرد لك الايات ثم يأتي بشرحها بطريقه جميلة و مبسطة ولا يخلو من الفائدة