لا تزال هذه الرواية الشهيرة تسطع بنجمها على مر الأعوام وتعاقب السنوات،
فهي تحل وترتحل بمرور الأجيال من القرّاء على مرِّ الزمان ولا تكاد لغةٌ في العالم
تخلو من ترجمة واحدة على الأقل لهذه الرائعة التاريخية.
،
تبدأ أحداثها في فرنسا عام 1815م، الفترة التي لم تزل خلالها عواقب ثورة 1789م
المعروفة تصدع بدوي صداها المكان. مع اقتراب انحسار الضوء ودنو الشمس لمغربها،
دخل رجلٌ غريب خائر القوى، انهكه المسير الطويل الذي تخلله تحمل لسع الجوع ولُهث العطش،
مدينة "ديني" الفرنسية. لم يكن يريد شيءً ساعتها غير تناول بعض الطعام وأخذ قسطٍ من النوم؛
فهو لم ينعم بهذين الأمرين كأي مواطن منذ مدة طويلة.. منذ 19عام!
هذا الرجل يُدعى: "جان فالجان"
حتى مع امتلاكه المال للحصول على مبتغاه إلا أن الفنادق والمطاعم رفضت استقباله بل وحتى
مكوثه والنوم في الاسطبل مع الخيول.. الأمر وصل به لدرجة جعلته يذهب للسجن ويترجّى السجّان
ليسجنه، فبذلك يتّقي صقيع البرد ويأكل وينام مرتاح البال، فلم يكن رد السجّان ليختلف عمّن سبقوه.
لماذا كل هذا الرفض وعدم التقبل لهذا الرجل؟
السبب هو لأنه قضى 19 عاماً محكوما بالأشغال الشاقة في السجن،
وجريمته كانت سرقة رغيف خبزٍ لأطفال أخته بعد أن انسدت بوجهه سبل الرزق لإطعام أفواههم الجائعة..
19عاماً من أجل رغيف خبز لم يكن يسرقه لنفسه حتى!!
،
فرنسا في تلك الفترة كانت تعاني ظلماً اجتماعياً كبيراً، فحتى بعد قضاء "جان فالجان" لفترة حكمه كاملة
والتي أخذت بالتزايد حتى وصلت لـ19 عام لمحاولات الهرب المتكررة، لم يتقبله الناس ولم يقدروا على غضَّ نظرهم
عن زلته الصغيرة تلك، فهم لم يكونوا يرونه كرجل دخل السجن لأجل كِسرة خبزٍ، بل كرجل محكومٍ ..
لا غير.. أيّاً كان سبب دخوله السجن ..ظلماً كان أم عدلاً.. يبقى محكوماً، ولعل "فيكتور هيوجو" –الكاتب- قاسى الأمر نفسه في حياته؛
فعقوبة شخصية "جان فالجان" ليست إلا اسقاطاً للعقوبة التي تلقّاها هو حيث تم نفيه لـ 19عام لبلجيكا.
الناس لا تنسى الزلّات ولكنها تنسى الفضائل..!
،
لم يستقبل "جان فالجان" أحد عدا أسقف المدينة: السيد "مرييل"، وهو شخصٌ تستطيع معرفة معدنه
وأي نوعٍ من الرجال هو، من خلال حواره هذا مع "جان" :
"وما حاجتي لأن أعرف اسمك وقد عرفته قبل أن تقول لي. دُهش الرجل وقال: هل حقاً تعرف اسمي؟
فأجاب الأسقف: أجل.. أنت تُدعى أخي"
أُعجبت بشخصيته السمحة ومرونته مع أي موقفٍ يمر به.. وهذا برأيي ما يجب أن نكون عليه
فحين نُمَسُّ بالشر أو نُبشّر بالخير إما أن نبالغ في الهلع، أو أن نُفْرِطُ في الفرح ونحن لا نعلم حقيقة الأمر
فقد يكون وراء ما يبدو شراً، خيراً لابد من الصبر على السوء الذي سبقه، وقد يكون وراء ما يبدو خيراً، شراً
لابد من أخذ الحيطة قبل زوال الفضل الذي سبقه.
،
بعد مغادرة "جان فالجان" الأسقف "مرييل"، لم يكن يستطيع تفسير العواطف والأحاسيس التي كانت تختلج
في صدره وقتها؛ فهو قد امتلأ حقداً وغمّاً اتجاه الناس، ولكن ها هو رجلٌ ليس كبقية الناس يمدّ يده له ويبسطها
ليسحبه من البغض الذي يجتاحه اتجاه الآخرين.. جَفَلَ "جان فالجان" لفترة فهو كان يعيش تضاداً هائلاً بين الشر والخير
في نفسه حينها، صادفه الغلام ذو العشر سنوات: "جرفيه الصغير" والذي كانت حادثته معه نقطة تحول كبيرة في
حياته، تلت لقاءه بالسيد "مرييل".
،
" لقد أردت أن أعود إلى حياة الناس الأفاضل ولكن يبدو أن ذلك غير ممكن"
يبدو لي أنه وعلى إثر معاملة الناس له، رأى نفسه دائماً منبوذاً بينهم، لذلك فهو كان يفضّل البقاء مجهول الهوية.
لاحظت أن الكاتب عندما يعود لـ"جان فالجان" بعد ذهابه بالأحداث بعيداً عنه إلى شخصياتٍ أخرى، يجعله في معظم الأحيان
مجهولاً للقارئ في البداية ويشير إليه بدلائل اخرى كأن يقول مثلاً: كان هناك رجلٌ عجوز يمشي..." أو مرّ رجلٌ شيخٌ ومعه فتاة صغيرة..."
ولا يشير له بشخصه المعروف إلا بعد فترة.
هل لهذا الأسلوب علاقة برغبة "جان فالجان" بالبقاء مجهولَ الهويةِ دائما؟!
بذكر الفتاة الصغيرة..
إنها "كوزيت" البائسة.
قراءة ما مرّت به منذ نعومة أظافرها لا يُشعِر المرء إلا بالأسىً لحالها،
وقراءة ما مرّت به والدتها "فانـتين" في سبيل توفير العيش الكريم لها لا يُضيف إلا المزيد.. المزيد من الأسى.
تقاطع طريق "جان فالجان" مع "كوزيت" إحدى الحبكات الجميلة في الرواية.
،
هناك حبكة وتحوّل في الرواية جعلني مشدوه الوجه لا أبدي إلا ملامح الدهشة..
فقط أستطيع القول أنه محبوك بدقة سلسة جعلتني لا أتنبه له إلا وقت الكشف عنه وربط الأحداث السابقة به.
،
توجد بعض الرومانسية في الثلث الأخير من الرواية والتي لم أقتنع بها وبطريقة بدئها -حتى مع تجاهلي لحقيقة عدم إعجابي بقراءة الرومانسية في الروايات-..
فهي كانت سخيفة في هذه الرواية في بادئ الأمر.
لا أعلم كيف يُحِبُ المرءُ شخصاً لا يعلم عنه أي شيءٍ بتاتاً ومن ثم يكون مستعداً لدفع حياته لِقاءَ هذا الحب الصُّوَري!
هكذا كانت علاقة "كوزيت" بالشخصية الرئيسية الاخرى "ماريوس"!!
،
تقديم بعض الشخصيات في هذه الرواية أعجبني كثيراً، كالعجوز "جيلنورمان" الذي لا يستقبل أي أحدٍ
على الإطلاق إلا في الليل فقط، أفراد عُصْبَة "أصدقاء الألفباء" الذي ينادون بالعدل في البلاد،
وكذلك تقديم ُرباعي الإجرام المرعب المسمى بـ"المعلم مينيت" الذين إن شاركوا في عمليةٍ إجراميةٍ، يضمن الجميع نجاحها.
،
على الرغم من أن عمر الرواية يتجاوز القرن إلا أني تفاجأت بأن الكاتب وصف التطرّف أدق ما يمكن أن يوصف في أبسط إطار:
" التطرّف هو تجاوز الحدود والمغالاة.. إنه مهاجمة الملك باسم العرش، ومهاجمة الأسقف باسم المذبح..
إنه الإساءة إلى الشيء الذي تؤيده، وتأييد الرأي الذي يسيء إليك.."
وكأنه يصف المنظمات الإرهابية في زمننا الحاضر، فأولئك الذي يدّعون نصر الإسلام ورفع رايته،
لا يقدمون لِما يزعمون دعمه سوى الإساءة ، وبالتالي أصبحوا كالمؤيدين لمن هم ضد الإسلام إذ أن تشويه الدين الحق هو مبتغاهم.
ثمّ أضاف: "إنه أن تكون موالياً إلى درجةٍ تصبح معها معارضاً.. وأن تكون معارضاً إلى درجة تخدم من تعارضه.."
تمام الوصف وأحسنه!!!
،
الاسقاطات على سواد ظلم تلك الأوقات الخالية في فرنسا كانت جليّه:
" فالحقيقة التي لا جدال حولها هي أن من رأى شقاء الرجل مهما عظم فهم لم يرى الشقاء،
وحتى من رأى شقاء المرأة.. إن على المرء أن يرى شقاء الطفولة ليدرك معنى البؤس والشقاء."
لقد ذكر في الفقراء:
" لقد تعذبوا وقاسوا الذل والهوان، ولا شك أنهم راكموا في أنفسهم الحقد من الاستجداء،
والكره من ليالي الجوع، والألم مما لحق بهم من نظرة الناس، ومن تحقيرهم."
هذا ما آل إليه حال "جان فالجان" بعد خروجه من السجن وقبل لقائه السيد "مرييل"..
أجل، إن تركك لأخيك يعاني في حين أنك قادرٌ على مساعدته؛ لا يجعلك في واقع الأمر مختلفاً
عمّن يفعل الشر، فتركك له يزيد من بغضه وكره للحياة وللناس الذين تخاذلوا من حوله.
لا أعلم لماذا يحدث هذا معي، ولكن كثيراً ما أتذكر ما كتبه مصطفى صادق الرافعي في آخر ما أقرؤه من كتب !
لا أعجب أن الكتاب الوحيد الذي قرأته منه هو أفضل كتابٍ أدبيٍّ بالنسبة لي على الإطلاق.
..قال الرافعي في "وحي القلم":
"كما يضر أهل الشر غيرهم إذا عملوا الشر، يضر أهل الخير غيرهم إذا لم يعملوا الخير"
ما إحدى نتائج ضُرّ أهل الخير لغيرهم ؟
الجواب، ما كان في الاقتباس السابق!
،
هنالك أمثلة يُحتذى بها في أحداث الرواية كالضابط "تيودل" المُنكب بإخلاصٍ على عمله:
" لاحظ رفاق الضابط أنه في تلك الحديقة خلف قضبانها، فتاة جميلة تنظر عند مرور الضابط،
وقالوا له: قف إن هذه الفتاة تنظر إليك. وكان رد الضابط:
أتظنون أن في وقتي متسع لأرد على نظرات الفتيات اللواتي ينظرن إليّ"
،
أكثر جُملةٍ ساحرةٍ في الراوية، بلغت أقصى ما يمكن لبلاغة الأدب بلوغه وأكثر ما يمكن لدِقّة الوصف وصوله..
إنها من أكثر الجمل التي بقيت عالقة في ذهني بعد الرواية للآن ولا أظن أني سأنساها يوماً ما...
كانت كلماتها من إحدى شخصياتي المحببة في الرواية: الغُلام "جافروش الصغير" ...
قالها في وسط عاصفة إطلاق النار بين الثورويين والجيش بينما كان يعمل في وسط المعمعة
على جمع ذخائر القتلى من الجنود إذ إصابة إحدى الطلقات الطائشة أحد الجنود الموتى على الأرض بقربه.
حينها قال تلك الجملة:
" تباً لهم، إنهم يقتلون الموتى"
!!!
،
البؤساء.. يا لها من رواية تاريخية تمثل صور معاناة قاسية وتفيض بمعاني الإنسانية والإخاء والسعي للخير..
"جان فالجان".. "كوزيت".. "فانتين".. "مرييل".. العمدة "مادلين".. السيد "لوبلان".. "فوشلوفان"..
"تيناردييه".. "جوندريت".. "ماريوس".. العجوز "جيلنورمان".. المحقق "جافيير".. أصدقاء الألفباء.. عصابة المعلم "مينيت".. "جرفيه الصغير".. "تيودل".. الفتاة "إيبونين".. السيد "مابوف".. البارون "بونمرسي".. ولا أنسى "جافروش الصغير"..
جميع هؤلاء لازلت أتذكرهم وليس من عادتي إنهاء روايةٍ وتذكر هذا الكم من الشخصيّات.