القارئ لفكر مالك بن نبي يمكنه أن يلاحظ أن المحور الرئيسي لكتاباته هي مركزية الحضارة ودورها في النهضة الاسلامية. وان كنا دارسين لتاريخنا الحضاري يمكننا القول أننا في مرحلة ما كنا في أوج الحضارة ونحن الآن مع الأسف في مرحلة أفول حضاري. فكيف لنا اذن أن نعيد للحضارة الاسلامية أوجها ومكانها في العالم أو كيف لنا أن نتبنى حركة تجديد أو اصلاح للمجتمع الاسلامي للنهوض بواجباته تجاه أمته.
يلفت مالك بن نبي نظرنا الى مجدد ومصلح الشرق جمال الدين الأفغاني والذي يقول أن صرخة انطلقت من الشرق سمع دويها في الغرب. فكان الجزائريين من السباقيين للتجديد والاصلاح بعد التخلص من الاستعمار ويسرد لنا هنا كيف أنهم في البداية استطاعوا السير على الطريق السليم في الاصلاح الا أنهم ما لبثوا أن انحرفوا عن أهدافه ولم تكتب لهذه الحركة النجاح.
ينطلق مالك بن نبي في فكرة الاصلاح من قوله تعالى: " إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] ". فالتغيير اذن ينطلق بداية من الأفراد الراغبين على الحقيقة بصحوة روحية وفكرية تتبعها فيما بعد نهضة مجتمعية تشكل اللبنة الأساسية لقيام الحضارة. الا أن هذه الصحوة يجب أن لا تكون فردية فحسب بحيث لا تصل لأحد ومن هنا يمكن أن نقول أن إصلاح الأفراد كما أشارت له الآية الكريمة هي أساس أي تغيير مجتمعي وأن اصلاح الواقع الاجتماعي المتخلف هو السبيل الى احداث نهضة حضارية. فمنظور مالك بن نبي يأخذ الروابط الاجتماعية التي هي مكون أساسي الذي يعطي للدولة والسياسة شكلها.
الحضارة عند مالك بن نبي هي "مجموع الشروط الأخلاقية والمادية التي تتيح لمجتمع معين أن يقدم لكل فرد في كل طور من أطوار حياته المساعدة الضرورية " ويرى مدى ارتباط الدين في نشوء الحضارات فأينما وجد الوحي أو الدين فهناك تنشأ الحضارة. فالبعودة الى الحضارة الأولى في الاسلام يمكننا أن نجد طريق الاصلاح. ويلاحظ مالك بن نبي أن أغلب محاولات الاصلاح في العالم الإسلامي كانت معالجة للمرض الحاصل في المجتمع وليس علاج للأسباب المؤدية لهذه الأمراض ويصورها كالمريض الذي يذهب لصيدلية لشراء دواء لمرض لا يعرفه. ومن أجل أن نمتلك القدرة على علاج هذه الأسباب علينا بداية أن نفكك الحضارة كما يفعل الكيميائي الى مكوناتها الأساسية، فما نأخذه نحن من الحضارة الغربية ينحصر بمخرجات الحضارة المادية أو الشيئية ومن هنا يضع لنا مالك بن نبي معادلة الناتج الحضاري ب:
ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت
وقد وضحها لنا في فصل خاص بكل منها. الا أن الناظر الى هذه المعادلة يمكنه أن يرى أنها بالمجمل مكونات مادية يعزوها البعض الى تأثر مالك بن نبي بالحضارة الغربية الا أنه لا يهمل هنا أن من أجل أن تنجح هذه المعادلة علينا إضافة عامل مساعد كما يفعل الكيميائي حتى تنجح تجربته وهي هنا: الدين.
يرى مالك بن نبي أن الدورة الحضارية لأي مجتمع يمكن تلخيصها بثلاث مراحل للتطور:
- المرحلة الأولى: النهضة أو الميلاد وهي طور صاعد. (الروح)
- المرحلة الثانية: الأوج وهي تسير بخط متوازي. (العقل)
- المرحلة الثالثة: الأفول وهي طور هابط. (الغريزة)
وكما بينّا سابقاً، فإن مالك بن نبي يعتبر الدين الدافع الأساسي وراء بناء الحضارة. ففي المرحلة الأولى التي أطلق عليها مرحلة الروح، يتحرر فيها الانسان من سيطرة الغريزة وتسيطر عليه صيحة الروح، تلك الصيحة التي جعلت بلال بن رباح يقابل جلدات جلاديه ب "أحدٌ أحد"، تلك الصرخة التي حررته من الألم الغريزي ولبّى فيها نداء الروح، تلك الرغبة بالتحرر من صوت الغريزة حيث لم يكن للعقل هنا أي دور بعد في هذا الطور. وتنشأ هنا ما يسميها مالك بن نبي ميلاد الفكرة الدينية للحضارة.
تستمر هذه الفكرة الدينية المميزة للمجتمع بالتطور حيث تنتج حاجات وضرورات جديدة لا ترتبط بالضرورة بالمظاهر الروحية للدين بل تكون مادية بحتة. ان توازن هذه المتطلبات الروحية والمادية للمجتمع تصل بالمجتمع الى أوجه في المرحلة الثانية وتستمر بشكل متوازي مع تطور هذه المجتمعات بالنسبة للزمن. يظهر صوت العقل في هذه المرحلة وتكون سيطرته أعلى من سيطرة الروح على المجتمعات ويمكن ملاحظة ازدهار العلوم والفنون في هذه المرحلة.
في مرحلة الأوج تملك المجتمعات الخيار في اطلاق سيطرة العقل على كل شيء ومن هنا تنحى المجتمعات الى منحى مادي (مثال الماركسية) لا يملك السيطرة على الغريزة كما تفعل الروح، أو العودة الى سيطرة الروح بالمطلق مع إهمال للجوانب المادية والعلمية أو أن توازن بين هذين المكونيين. يرى مالك بن نبي أن اطلاق العنان لسيطرة العقل على المجتمع يعيد للغريزة دورها بالسيطرة على الأفراد لندخل بعدها في الطور الثالث وهو الأفول. ومن الملاحظ أن إنسان ما قبل الحضارة يتمتع بروح وطاقة عالية على التجديد بينما انسان الحضارة يفقد هذه الطاقة تدريجياً فيفقد قدرته على التجديد والإصلاح الا اذا أصلح نفسه كما أشارت الآية اليه. فالمجتمعات عليها أن تحافظ على هدف ومعنى متجددين اذا أرادت أن تستمر في تحقيق نهضتها الحضارية.
من الأموراللافتة للنظر عند قراءة الفصل الخاص بمركب الحضارة (الانسان) هو تعريفه للانسان المدني، فمالك بن نبي يرى انسان المدينة بأنه نصف فكرة ونصف تطور وهو احدى الأسباب في عجزه الذي نراه الآن على التجديد. والمقصود بهذا هو أنه ليس رجل فطرة بالكلية (انسان القرية او البادية وكما بينّا أنه نقطة انطلاق) وليس رجل حضارة بالكامل (يشكل الناتج النهائي أو أوج الحضارة) فهو يملك أنصاف حلول (أطلق عليها السياسة) يدور حولها.
وهذا يقودنا الى آخر موضوع سأتطرق له في هذه المراجعة وهي الثقافة. وستجد أن مفهوم الثقافة مرافق دائم عند الحديث عن الحضارة تجدها عند علي عزت بيجوفيتش، مراد هوفمان وغيرهم من رجال الفكر في العالم الإسلامي. يرى مالك بن نبي أن لفهم الثقافة علينا أن نميزها عن فهمنا الخاطئ لها في العالم الإسلامي بالعلم. فالثقافة مرتبطة بسلوك الانسان في المجتمع أكثر منها نظرية معرفية. فتصرفاتنا (صفات خلقية وقيم اجتماعية) وسلوكنا في المجتمع الاسلامي ككل يميزنا عن تصرفات وسلوكيات المجتمع الانجليزي على سبيل المثال، فثقافتنا مختلفة وبالتالي سلوكنا يختلف باختلاف ثقافتنا أما العلم والمعرفة فهي فردية تميز ما بين الراعي والمعلم مثلاً في المجتمع الواحد.
وبناءاً على هذا، فالمكون الاجتماعي للثقافة يمكن أن يأخذ هذه الأشكال:
- عنصر الأخلاق الضروري لبناء الروابط الاجتماعية في المجتمع.
- عنصر جمالي وهو يقود ما يسمى ذوق المجتمع العام.
- منطق عملي والذي يشكل نشاط المجتمع.
- فن تطبيقي أو ما يسميه ابن خلدون بالصناعة يختلف من مجتمع الى آخر.
وبارتباط الثقافة بالحضارة والتي تشكل المحيط العام الذي تنشأ فيه الحضارة وتتطور من خلالها يكون اتجاه الحضارة حسب المعادلة التالية:
مبدأ أخلاقي + ذوق جمالي = اتجاه الحضارة
وهما مكونين أساسيين لا يمكن الاستغناء عنهما في معرفة الناتج النهائي للحضارة. فبتغيير الأولويات أو ترتيب هذان المركبان تختلف الصورة النهائية للمجتمع. فإذا كانت الأولوية الأولى في المجتمع اعلاء الذوق الجمالي على الأخلاقي، مثال الفن العاري أو تطور الملابس في المجتمعات الغربية نرى كيف تشكلت الثقافة الغربية وبالمقابل اعلاء الأخلاق على الذوق الجمالي في المجتمعات الاسلامية ونظرتها للفن العاري الذي قوبل بالرفض من مبدأ أخلاقي وكيفية تطور الملابس التي تتسم بالحشمة.
شروط النهضة من الكتب التي تستحق القراءة لاحتوائها على الكثير من التساؤلات التي ما زلنا نطرحها اليوم ودعوتنا المستمرة للإصلاح في العالم الإسلامي والتي ما تزال في طور الأفكار ولم تأخذ الخطوة باتجاه التطبيق بعد. كنت أتمنى أن يطول الكتاب أكثر الا أن كتب مالك بن نبي الأخرى في سلسلته مشكلات الحضارة تطرقت الى معظم هذه الأفكار بالتفصيل للباحث على تفاصيل أكثر.