نشأ " غسق الأوثان " على أنقاض كتاب آخر كان يزمع نيتشه نشره بعنوان " ارادة القوة " ولكنه تخلى عنه كما تُظهر المسودات التي وضعها لصالح الكتاب الذي بين ايدينا وكتابه الآخر " نقيض المسيح" مما يجعل الكتابان توأمان مكملان لبعضهما وعلى ذلك فان لي موعدا متجددا مع نيتشه في اقرب فرصة .
عميق الاحترام لتلك القوة العقلية الهائله التي يمتلكها نيتشه والتي تمكنه من قلب القيم ، وهدم المعابد على رؤوس اصحابها ، وخوض حرب كبرى على أوثان أبدية معلنا عن أفولها مع ضربة المطرقة الاولى المتمثلة بالعنوان الذي اختاره لكتابه .
يدرك نيتشه مدى جزالة ألفاظه و أثر عباراته وفائض القوة الفكرية التي تمكنه من عقلنة كل المسائل وتجريدها من كل هوى فهو يعرف نفسه على انه السيكولوجي القديم والحاوي العريق الذي يجعل الأشياء الأكثر حرصا على التكتم مرغمة على النطق بصوت مسموع أمامه ..
(سأرى نفسي ، وسأقرأ نفسي ، وسأنتشي و أقول " أكاد لا أصدق أنني كنت على مثل هذا المستوى الرفيع من العقل " ) هذه العبارة المجتزأة من رساله ما والتي وردت في احد هوامش المترجم تعبر عن ما يمكن أن يستشفه القارئ كلسان حال لنيتشه وتصوره لمدى قوة كتاباته وهو تصور منصف و دقيق على أية حال .
الكتاب مقسم الى عدة اقسام تبدأ بالأمثال و اللواذع وهي شذرات يُعِد نيتشه نفسه المعلم الأول فيها فهي تمكنه من ان يقول في عشرة جمل ما يقوله او لا يقوله الآخرين في كتب عديدة وتنتهي هذه الأقسام عند حديث المطرقة .
ما بين اللواذع والمطرقة يضع نيتشه القارئ امام مرآة ضميره مستجوبا اياه باربع اسئله عن طريقه وهويته وأثره وغايته ثم يقدم اربع اطروحات عن واقعية العالم الظاهري والوجود الحقيقي للأشياء وخديعة الحياة الأخرى وانحطاط الفكرة الدينية المتمثلة بتقسيم العالم الى حقيقي و ظاهري .ليصل الى الغاء العالم الحقيقي ومن ثم يعرض للأخطاء المتمثلة بالخلط بين العلة والنتيجة والخلط بين الحقيقة والمفعول الناجم والخلط بين حالة الوعي والسبب الذي تتأتى عنه تلك الحالة مُدخلا الدين والأخلاق الى مجال الخطأ البيسكولوجي .
ثم يضع نيتشه نفسه في ما وراء الخير والشر ، جاعلا من وهم الحكم الأخلاقي شيئا تحت منزلته مجسدا ذلك في مبدأين اعتبرهما مدخلا لتلك الوضعية :
1- " لا وجود البتة لواقعات أخلاقية ، ان الحكم الأخلاقي يشترك مع الحكم الديني في ايمانه بحقائق ليست بالحقيقة " .
2- " كل الوسائل التي تم استخدامها الى حد الآن بهدف جعل الانسانية اكثر اخلاقية ، كانت جميعها لا أخلاقية في اساسها " .
فالكذب المقدس عند نيتشه هو الإرث المشترك لكل الفلاسفه والقساوسه وهو الامر المشترك بين كونفوشيوس ودستور ماني ومحمد والكنسية المسيحية ولا يفتقد لدى افلاطون ايضا .
" لم يعد هناك من أحد يحق ان تلقى عليه المسؤولية ، ونوعية الوجود لا يمكن ردها الى علة أولى ، والكون لا يستطيع ان يمثل وحده لا في صيغته الحسية وحدها ، ولا في صيغته العقلية - ذلك ، وذلك وحده هو التحرر الكبير - وبذلك فقط يتم اثبات براءة الصيرورة من جديد ... لقد كانت فكرة " الله " الى حد الآن تمثل الاعتراض الاكبر على الوجود ....اننا ننفي الله ، وننفي المسؤولية في الله : بذلك فقط نخلص العالم "
هكذا تكلم نيتشه
ظن نيتشه انه اتسق مع قاعدتة القائلة " على المرء فقط أن يعرف من هو " وسواء كان ذلك الاتساق قد تم له بمساعدة دوستويفسكي (يتحدث نيتشه في موقع آخر من الكتاب عن افادته من القراءة لدوستويفسكي على فهم افضل لنفسه ) او نتيجة القوة والمقدرة العقلية الهائلة لديه فقد عرف نفسه كرجل متسكع غير موافق للعصر وهذه من امارات الطباع العبقرية .
لقد قاد طوفان النهر الفكري الهائل صاحبه الى الجنون ، وكان لضفتي هذا السيل العارم من الافكار ان استفادت من ارتطامها الهادر مع تياراته المتدفقة .
على تلك الضفاف يقف قراء نيتشه .
واقف على ضفة ذلك النهر حائزا على ايمان قوي واثقا بما فيه الكفاية ، متينا بما فيه الكفاية ، مرتبطا بما فيه الكفاية لأمنح نفسي الحق في ترف الشك .
مع عميق الاحترام
