"الشوارع القديمة، كثيرة الالتواء، المتشابكة، المتداخلة، تعبق برائحة الزمن. (…) النساء يتنادين ويتكلمن من النوافذ والشرفات المتقاربة أو يستروحن النسمات المترامية من ناحية البحر. (…)العربات تتقابل عليها أقراص الجبن التركي وأقفاص الخضر والفاكهة وجريد الخبز." - رباعية بحري للعبقري السكندري محمد جبريل 🇪🇬
إذا كان لورانس داريل قد ارتبط في أذهان الكثيرين من محبي الأدب برباعية الإسكندرية، فإن ذات المدينة العجائبية المعجبانية قد ألهمت رباعية أخرى معجونة بتُراب الإسكندرية ورمل شواطئها وماء بحرها وعبق أزقّتها وحواريها: رباعية بحري المدهشة لمحمد جبريل، الذي حتمًا عَمَّر محبرته بعرق الصيادين وملح الموج ومِسك الأضرحة التي ألهمت رباعيته: أبو العباس المرسي - ياقوت العرش - البوصيري - علي تمراز.
انتهيت من قراءة ما يربو على الألف صفحة هي قوام الرباعية، ولا أبالغ حين أقول أن متعة المطالعة للأجزاء الأربعة لا يضاهيها سوى حزني لانتهاء صفحات الرباعية، وكأني قد بلغت مقام الوجد وعلقت فيه، فلم أقدر على ولوج مرتبة التخلِّي.
تدور أحداث الرباعية في حي بحري السكندري في أربعينات القرن الماضي وصولًا لثورة ١٩٥٢، أبطالها من الصيادين والمعلّمين والمريدين، تتقلب أحوالهم ما بين خلوات للاستبصار بشموس المعارف وأُنس الذِكر ومكاشفة الأقطاب من جهة، واستكانة لغواية الجنس والكيف ومنطق القوة من جهة أخرى…باختصار: ملحمة إنسانية بامتياز. يبدع جبريل في رسم بانوراما بطلها الحقيقي هو المدينة وبحرها الذي يبدو وكأن مصائر أهل بحري من صيادين وبحارة قد سُطرت فيه بمداد لا ينمحي، كما يبدع في استجلاء سِيَر الأولياء الذين مروا بالمدينة وصاروا نبراسًا يدفع بمريديهم إلى جذبات وشطحات تقصيًا للقُرب والفتوحات.
بطبيعة الحال، لجأ جبريل إلى نثار الواقعية السحرية ناهلًا من موروث الصيادين الشعبي شديد الثراء حيث سطوة الخرافة، فيطعّم العمل بحكايات حول عروس البحر ودم الترسة وجزيرة الكنز وكرامات أبي العباس، ولا يفوته أن يفرد مساحات لأوراد الأولياء وأهازيج البحارة. عمل رائع وهدية حقيقية لمحبي الإسكندرية. أترككم مع قطعة من موال للصيادين:
"عيني رأت غليون في وسط البحور شاحط
ريّسه جدع جد يا خسارة دفّته راحت
قبطانه اتعمى…والميه عليه ساحت
حتى الشراع انقطع فيه حتّه طيبة راحت."
#Camel_bookreviews