أسأت الظن بعنوان الكتاب فحسبته سيثقل كاهل عقلي بعبء الفريضة الجديدة ..فإذا به يزيل عنه إصر أثقال قديمة .. فلست مذنباً بعد الآن وأنت تفكر في حقيقة وجود الله ..وتتأمل في ابتداء العالم.. ومدى الكون ومنتهاه... ولن تكون في عين نفسك متشككاً إن بحثت في صدق الكتب السماوية القديمة أو قرأت بعض الإسرائيليات في خبر المرسلين والأنبياء ..ولست متألها إن تأملت في أمر الروح قليلا.ً فسألت نفسك: أين تنتظر روحي حتى تحين القيامة ؟؟ وإن كانت تنتظر فهي إذن لا تموت؟؟ فأين هو عالم الأرواح الخالد هذا ؟؟ ...ليست زندقة إن أبحرت في إبداع صنيع الله بكونه ثم لطمتك جرأة خاطرك قائلاً : أفمن يخلق مثل هذا ويحيط بكل هذا سيكون مبلغ رضاه وغاية حكمه العدل سبحانه ميزاناً عددياً ؟؟ فإن أتممت 90 ركعة من واقع 100 ركعة مفروضة وإن صُمت 50 رمضان من أصل 60 فأنت في الجنة ؟؟ أحقاً هذا كل شئ ؟؟... لما فجأة تذكرت المرأة الراهبة التي رأيتها منذ عامين وهي تسير مسرعة بالطريق ثم تتوقف عند بائعة المناديل على الرصيف فلا تلقي لها بالمال جانبا كما فعل الآخرون او تتجاهلها كما يفعل الأكثرون.. بل تهبها شيئا ثم تنحني لتقبل رأسها كالمعتذر و تمضي !! ....لما وكزت خاطري فقضيت عليه عندما همس لي : ( أن قيمة هذه القبلة عند الله هي الجنة)؟؟ ..أجدني الآن أود لو أني ابتسمت لها وسألتها الدعاء!!..... إن الفكر في الله وعن الله ولله هو أجلّ الفكر وأجمله ...فقط إكسر أصفاد خواطرك وتحدث كما قال العقاد بلسان الإمام أبو حامد الغزالي قائلاً : ((أن الشك هو أول مراتب اليقين)) ... وان الطريق بين النقطين لا يُقطع إلا بنور الله... .لا يقطع إلابالعلم والعقل ... كم راقني بعد ذلك العنوان!! أوحى لي أني حين أفكر فأنا أصلي ..فقط عليّ أن أتذكر وصية الله : ((ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا)).
كيف لم أقرأ للعقاد من قبل إلا اللمم؟؟ كان هذا هو سؤالي المتكرر في كثير
من الصفحات.. .أحب طريقته حين يسبر معك أغوار الفكرة حتى مشارف الغرق ثم يعلو بك إلى سطحها بسلاسة يتوه معها أمام ناظريك البرزخ بين الإثنين ..أعلم عن أناس قرأوا للعقاد شيئا فتركوه وآخرين لم يرضوا دونه بديلا... وظني أن العلة في الأولين هي هذا الشعور الذي يعتريك وأنت تدلف من الصفحة الأولى متسائلا وتخرج من الأخيرة حائرا .والحيرة لا تكون حلوة المذاق إلا لهواة الثرثرة الذاتية .
بيّن العقاد منذ البدء أن خطاب الإسلام المكلف بالتفكير هو خطاب موجه (( للعقل الذي يعصم الضمير ويقابله الجمود والعنت والضلال وليس العقل الذي قصاراه في الإدراك أنه يقابله الجنون )) وهذا الخطاب هو ما ترد الآيات الحكيمة بذكره بوصف الحكمة او الرشاد او وصف أهله بأنهم الذين يعقلون وهم أولي الألباب..وأورد في سبيل ذلك الكثير من الأدلة القرآنية ثم صرح بأن ((أكبر الموانع في سبيل العقل عبادة السلف ، والاقتداء الأعمى بأصحاب السلطة الدينية ، والخوف المهين لأصحاب السلطة الدنيوية )) او كما سماها في معرض آخر ((العرف والقدرة العمياء والخوف الذليل)) وأن أصحاب هذه العقول لا يختلفون كثيرا عن أقوام الجاهلية الأولى والتي كانت ترفض بشدة دعوى الفكر والإيمان لعلة تسفيه أحلام أباءهم وما درجوا عليه من أسلافهم وأجدادهم .
- يقول العقاد : ((ويكاد الذين كتبوا في تاريخ العقائد يتفقون على تهوين خطر الحكم المستبد على الضمير الإنساني بالقياس إلى خطر العرف أو خطر الخديعة من رؤساء الأديان .لأن الحكم المستبد يتسلط على الضمير من خارجه ولا يستهويه من باطنه كما يستهويه حب السلف أو الاسترسال مع القدوة الخادعة من رؤساء الأديان.فهو مشكلة مكان لا مشكلة عقل أو ضمير ..ولا يزال الإستبداد على كل حال قهرا للعقل بغير إرادته وهو غير الانقياد للضلال إيثارا له ومحبة للمضلين ))
- ولج العقاد إلى عالمه في المنطق والفلسفة موضحا في البدء ((ان المنطق هو بحث عن الحقيقة وأن الجدل بحث عن المصلحة أو الرغبة المتنازع عليها)) وبين كيف كان الجدل الخطابي صناعة وحرفة عند بني إسرائيل و بعض الأمم البيزنطية وأفاض الحديث في مذهب الإمام الغزالي من المنطق حيث رجحه لأولي العلم وطالبيه بينما خشي أثره على العامة والثراثرة المتحذلقين وأيده ابن تيمية الذي يرى على غير المتوقع منه وهو إمام أهل السلف أن المنطق ((سليقة في العقل الإنساني ومن كان هذا رأيه فمحال أن يقال عنه أنه يلغيه ويحرمه لأنه لا يلغي الفطرة ولا يحرم تركيبا أودعه الله نفوس خلقه ))
- كتب عن تاريخ (فلسفة ماوراء الطبيعة)...أو البحث المتعلق بأربع مسائل هي((قدم العالم وعلم الله بالجزئيات وصفات الله وخلود النفس بعد الموت )) متحدثا عن بدايته ومصائر علمائه على مر العصور (( فثالوث الفلسفة الأكبر )) والذي يبدأ بسقراط قضي عليه بالإعدام وأفلاطون بيع في سوق العبيد وأرسطو هرب من أثينا بعد أن رماه كهانها بإلالحاد وفيثاغورس وجد قتيلا بجانب مزرعة فول بينما يرى العقاد أن الإسلام لم يضيق ذرعا بمثل هذه النقاشات بل كانت تدور رحى المناظرات بين العلماء في أمرها علنا وبالرغم من أن الفلاسفة المسلمين كانت لهم مصائر مشابهة ولكن غايتها لم تكن دينية كما كانت في العصور اليونانية بقدر ما كانت سياسية .. وأعجبني كيف نصح باستقراء العلل من كتب التاريخ من حيث الظهور ...بمعنى أن العلة الظاهرة في السرد تكون هي السبب الرئيسي خلف الحدث وإن بدت سفيهة بل قد تدعمها سفاهتها لكونها ملائمة لعقول مقترفيها ..فابن سينا لم يُرمى بالالحاد إلا حينما رفض المقام عند أمير همدان فوجدها الأمير إهانة منه ..وابن رشد لم يُنكب من أجل قوله بخلود النفس كأرسطو وانما لوصفه الخليفة المنصور (بملك البربر ) في أحد كتبه ورفع الكلفة بينه وبين اخ الملك!!.
- لا أستطيع وصف غبطتي من هذه القصص عن سماحة الإسلام بالبعد عن جمود الفكر..يقول العقاد : ((روى الأزرقي في أخبار مكة : " أن النبي عليه السلام لما دخل الكعبة بعد فتح مكة قال لشيبة بن عثمان : يا شيبة ..امح كل صورة فيه إلا ما تحت يدي ...فرفع يده عن صورة عيسى ابن مريم وأمه))..وقصة وفد ثقيف الذين اشترطوا على الرسول ألا يخرجوا للجهاد ولا تؤخذ منهم الزكاة وألا يحبون للصلاة فوهبهم رسول الله ذلك كله عدا الصلاة قائلا (ص) : ((ولا خير في دين لا ركوع فيه )) ويروي أبو داود عن جابر أن سمعه (ص) يقول بعد ذلك : (( سيصدقون ويجاهدون )) وروى الإمام أحمد ابن حنبل في مسنده أن (رجل أتى النبي (ص) فأسلم على أنه لا يصلي إلا صلاتين فقبل منه ذلك ) وعن اجتهاد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه حين أسقط حد السرقة في عام المجاعة .
- إن كان الفكر حقاً صلاة كما أوحى إليّ هذا الكتاب فلك أن تقول أن العقاد رفع الاذآن و حتماً سيسعدك النداء (حي على الفكر ..حي على التأمل ) ولن يحزنك إلا ما فاتك منها وما عليك من قضاء.