كنت تعرف القصة ربما !!...لكنك هنا للمذبحة أقرب ما ستكون ..مُميّزا للحق والغصّة تتبع الغصّة في الحلق ستتعلق منك العيون برؤوسٍ شريفةٍ اعتلت رماح ....وأبعد ما ستكون أنت عن ما اعتدت في نفسك من بؤس أخبار الصباح ...فالحاضر للماضي جدُ هشٌ بالقياس ...وسترى من الناس من باع دم النبيّ غير آسفٍ بولاية أرضٍ أو بجباية مال ...بحفنة رمادٍ تذروه الرياح في يومٍ عاصف!! ... ثم مشدوها ستطوف مع قاطف الرأس الشريف بدروب كربلاء والعراق ، تقتفي عيناه مستنكرا: أوتدرك حقاً قداسة الدماء التي بيداك اغترفت ؟؟ ...أوحتى تكتفي له بالقول متلطفاً: كيف كان نومك البارحة بعدما اقترفت؟؟ ...وستتمنى للحظة في قرارة النفس لوكنت حقاً حينها ...أعني بساعة البأس.. في شجاعة السائل الذي تخيلت حتى وإن زدت بذلك عدد الشهداء المنسيّة أسماءهم واحد!! ... أما المؤكد فإنك حتما واجدٌ في نفسك لهفٌ للزيارة..لأن تُقرأ الحسين السلام وتجتهد في نظم اعتذارٍ لائقٍ بأيام العطش والحصار ..وألآم السيوف والطعان ...اعتذارا مكافئاً لمرارة الخذلان!!
يدرك العقاد أن للتاريخ قلماً يربت به على كتف البعض ويحزّ به عنق الآخرين ، وستدرك أنت أنه ليس واحدا من أقلامه بأي حال...ستجده يفرغ في أول الكتاب الفصل والفصلين لتفنيد الأراء المؤيدة والناقدة لكلٍ من الشرقيين والمستشرقين في أمرهذا القتال....ثم يجتث بالتحليل الاجتماعي والأخلاقي والنفسي أصل الخصومة ومولد الخلاف بين بني هاشم ذوي الزعامة الدينية وبني أمية أهل الزعامة السياسية ...ذاك الخلاف الذي أينع حصاده المقيت بين سفيان ابن أمية و رسول الله صلّ الله عليه وسلم...مرورا بمعاوية ابن أبي سفيان وعلي إبن أبي طالب كرم الله وجهه ..وانتهاءً أو هكذا الظن بالفاجر اللاهي يزيد ابن معاوية ذو الأربعة والثلاثون عاما وبين العابد العادل الحسين بن عليّ ذو السبعة والخمسين عاما آنذاك عليه وعلى آل البيت أجمعين الصلاة والسلام .... ولا تقلق فللعقاد من الحنكة ما يكفيه ليزهد في مقارناته تلك عن مزالق الغلو في المدح والمبالغة في القدح رغم جلاء عقيدته ونصرته لسبط النبي (ص).
البارحة بعد الفجراستلقى مزملا جسده الضخم في الفراش كطفلٍ خائف ...صار يفقد شيئاً من مرح طباعه المعتاد عند قراءة الأخبار ...نظر إليّ ثم قال بهدوء: (إحكي لي عن الحسين ؟!) ...فكان هذا مما حكيت:
عن خلق الحسين عليه السلام :
يقول العقاد : (( روى أنس ابن مالك أنه كان عنده فدخلت عليه جارية بيدها طاقة من ريحان فحيته بها. فقال لها : (أنت حرة لوجه الله تعالى ) ، فسأله أنس متعجبا: (جارية تجيئك بطاقة ريحان فتعتقها؟) فقال الحسين : كذا أدّبنا الله ..قال تبارك وتعالى : (( وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها) وكان أحسن منها عتقها))
بعد أن بايعه أهل مكة والمدينة ، كاتبه أهل الكوفة والبصرة يريدون مبايعته وحين خرج إليهم مسافرا بأهله ورحله ليجيب دعوتهم ، وجد رسوله إليهم (مسلم ابن عقيل بن أبي طالب ) وقد قُطع عنقه ، وبعد أن كان في نصرته ثمانية عشر ألفا أو يزيد لم يبق إلى جواره إلا ثلاثون فارسا وأربعون راجلا ، فعلم أنه مخذول ، يقول العقاد : (( وأراد الحسين أن يبقى للموت وحده وألا يعرّض له أحدا من صحبه ، فجمعهم مرة بعد مرة ، وهو يقول لهم في كل مرة : (لقد بررتم وعاونتم ..والقوم لا يريدون غيري ، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا ، فإذا جنّكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم))
عن قوله تعالى: ((فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا))، حين تطمع ذرية الصحابة الأجلاء بولاية وسلطة ، فيختارون مساومة يزيد وينكصون عن مقاومته في قتاله للحسين:
يقول العقاد : (( كان سعيد بن عثمان بن عفان يرى أنه أحق من يزيد بالخلافة لأنه ابن عثمان الذي تذرع معاوية إلى الخلافة باسمه ...فاسترضاه معاوية وأخذ منه البيعة لابنه يزيد بولاية خراسان))
ثم يتحدث العقاد عن (عمر ابن الصحابي الجليل سعد ابن أبي الوقاص رضي الله عنه ، وما دفعه إليه طمعه في ولاية الريّ التي وعده بها يزيد، أنه هو من كسر السلم القائم فيما بين معسكر يزيد والحسين بيوم كربلاء فيقول: (( فزحف عمر بن سعد إلى مقربة من معسكر الحسين ، وتناول سهما فرماه عن قوسه إلى المعسكر وهو يصيح : (اشهدوا لي عند الأمير أنني أول من رمى الحسين ) ثم تتابعت السهام فبطلت حجة السلم وقال الحسين وهو ينظر إلى السهام وإلى أصحابه : (قوموا يا كرام فهذه رسل القوم إليكم ) وبدأ القتال))
وفي مقطع آخر يقول: ((ومن الواقع الذي لا شبهة فيه، أن (عمر ابن سعد بن الوقاص ) هو الذي ساق نساء الحسين بعد مقتله على طريق جثث القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء، فصِحّن وقد لمحنّها على جانب الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله وهم ممن قاتل الحسين وذويه))
عن مآثم العطش والحصار:
يقول : (( فمن هذه المآثم المخزية أن الحسين برح به العطش فلم يباله ..ولكنه رأى ولده عبدالله يتلوى من ألمه وعطشه ، وقد بحّ صوته من البكاء ، فحمله على يديه يهم أن يسقيه ، ويقول للقوم : (اتقوا الله في الطفل إن لم تتقوا الله فينا) فأوتر رجل من نبالة الكوفة قوسه ، ورمى الطفل بسهم وهو يصيح ليسمعه المعسكران : (خذ اسقه هذا) فنفذ السهم إلى أحشائه !!))
(( لما اشتد عطش الحسين دنا من الفرات ليشرب ، فرماه (حصين بن نمير) بسهم وقع في فمه ، فانتزعه الحسين وجعل يتلقى الدم بيديه فامتلأت راحتاه بالدم ، فرمى به إلى السماء وقد شخص ببصره إليها وهو يقول: (إن تكن حبست عنا النصر من السماء ، فاجعل ذلك لما هو خير منه ، وانتقم لنا من الظالمين ) وقد كان منع الماء قبل ترامي السهام نذيرا كافيا بالحرب يبيح للحسين أن يصيب منهم من يتعرض للإصابة ..ولكنه كره أن يبدأهم بالعداء ))
عن مشهد المصرع والاستشهاد :
كان المقاتلين يهابون أن يبوء أحدهم بإثم قتل الحسين ، فكانوا يتفرقون عنه كلما اقتربوا منه ، حتى رآهم ثاني أشد معاوني (يزيد ابن معاوية ) بعد السفاح (عبيد الله بن زياد ) واسمه (شمر) ، يقول العقاد : (( فصاح شمر بمن حوله : (ويحكم ماذا تنتظرون بالرجل اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم!!) فاندفعوا إليه مخافة من وشايته وعقابه وضرب (زرعة التميمي) الحسين على يده اليسرى فقطعها ، وضربه غيره على عاتقه فخرّ على وجهه، ثم جعل يقوم ويكبو وهم يطعنونه بالرماح ويضربونه بالسيف حتى سكن حراكه ، ووُجدت بعد موته رضوان الله عليه ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير إصابة النبل والسهام ، ونزل (خولي الأصبحي) ليحتزّ رأسه ، فملكته رعدة في يديه وجسده ، فنحاه (شمر) وهو يقول له (فتّ الله في عضدك!) ، واحتزّ هو الرأس الكريم))
(( قبل أن يسلم الحسين نفسه الأخير ، أهرعوا إلى النساء من بيت رسول الله (ص) ينازعوهن الحليّ والثياب التي على أجسادهن ، وانقلبوا إلى جثة الحسين يتخطفوا ما عليها من كساء تخللته الطعون حتى أوشكوا أن يتركوها على الأرض عارية ، لولا سراويل لبسها رحمه الله ممزقة متعمدا ليتركوها على جسده ولا يسلبوها ، ثم ندبوا عشرة من الفرسان يوطئون جثته بالخيل كما أمرهم ابن زياد ، فوطئوها مقبلين مدبرين حتى رضّوا صدره وظهره))
(( وقد قتل في كربلاء كل كبير وصغير من سلالة علي رضي الله عنه ولم ينجُ من ذكورهم غير الصبي زين العابدين ، وما نجا إلا بأعجوبة ، لأنه كان مريضا على حجور النساء يتوقعون له الموت هامة اليوم أو غد ، فنجا بهذا في لحظة عابرة ، وحُفظ به نسل الحسين من بعده ولولا ذلك لباد ، ثم قطّعوا الرؤوس ورفعوها على الحراب ، وتركوا الجثث ملقاة على الأرض لا يدفنونها ولا يصلون عليها ، ومرّوا بالنساء حواسر الرأس من طريقها فولولن باكيات ، وصاحت زينب بن علي (أخت الحسين) رضي الله عنها : (يا محمداه! هذا الحسين بالعراء وبناتك سبايا وذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا)، فوجم القوم مبهوتين وغلبت دموعهم قلوبهم))
((صُرع الحسين في العاشر من محرم عام خروجه (ودفن جسده سرا في بادئ الأمر بكربلاء ثم طاف رأسه من العراق إلى دمشق وعسقلان قبل أن يشتريه الفاطميون من الأفرنج ليدفنوه بالمشهد الحسيني بالقاهرة )، ثم لحق به يزيد بعد ذلك بأقل من أربع سنوات ، ولم تنقضِ ست سنوات على مصرع الحسين حتى حاق الجزاء بكل رجلٍ أصابه في كربلاء ، فلم يكد يسلم منهم أحدٌ من القتل والتنكيل مع سوء السمعة ووسواس الضمير ، ولم تعمر دولة بني أمية بعدها عمر رجلٍ واحد مديد الأجل ، فلم يتم لها بعد الحسين نيف وستون سنة ! وكان مصرع الحسين الداء القاتل الذي سكن في جثمانها (بجانب قتلهم الثائرين له في حرم المدينة ثم ضرب الحجاج الكعبة بالمنجنيق ) ، وأصبحت ثارات الحسين نداء كل دولة تفتح لها طريقا إلى الأسماع والقلوب))
في هذا الكتاب أمرٌ ما ! ..شيئاً كأن تكبرالدنيا من السطر فجأةً لعينك وتعظم ...تتجبر شرهةً شرسةً لتولغ في دماء الأنبياء....فتهابها!!....ثم ما تلبث في إدراكك تصغر وكأنها أحقر من أن تحوي النُبل على عاتق أرضها أو أن تظلّه منها سماء...فتعافها!!..أذكر الآن المعجم يقول: (دنيا) اسم مشتق من الدنو وقيل الدناءة!! ...فيا رب يا من علّمت آدم الأسماء ...اجعل لنا فيها نصيباً من علم الأصل.