كتاب(الله) للأديب عباس محمود العقاد، يأتينا بتأملات مفعمة بالأسئلة و الإجابات المقترحة حول الإيمان بوجود الله ،و هذه التأملات إتصفت بالعقلانية و بالرغبة الجادة و الحقيقية في المعرفة، فالتأملات جاءت وفق تسلسل تاريخي زمني حضاري و أيضا تسلسل منطقي ،و هذا التسلسل عزز الفكرة الرئيسة للكتاب ،و سهل على القارئ متابعتها .
ومن مميزات هذا الكتاب أن العقاد المشهور بأسلوبه التركيبي في اللفظ و في طرح المواضيع ، قد لجأ للتمويه الساحر و هو يخط كلماته هنا، فإستخدم العقاد الإختزال البناء، فهو لم يقم بالتخلي عن نهجه الأسلوبي و لكنه كثف المعاني في الجمل التي قد تبدو بسيطة ، و في الواقع فإن هذه الجمل قد بسطت كعدد أحرف في الأساس و لكنها كانت متخمة بالفكر، و بعض الفصول في الكتاب إن لم يكن معظمها حوت مصطلحات فلسفية و عقائدية و إسلامية و لاهوتية و وجودية و غيرها، و هذه المصطلحات تم وضعها برفق يساهم في تهيئة القارئ و إعداده لمناقشة القضية الإيمانية ، و كذلك تم ربط هذه المصطلحات بروابط توضيح للقضية الإيمانية ، و في الوقت آنه لتفجير خلايا العقول من طرائق قرب نصيب ليس بالقليل من الإتجاهات المذهبية للديانات المختلفة في فترات زمنية متقاربة أحيانا ،و متباعدة أحيانا من بعضها !
وثقافة العقاد و مشاكساته الفكرية و التأملية أيضا موجودة في الكتاب ، فهو لم يكتف فقط بعرض ما سطرته صفحات المراجع و الوثائق التاريخية و الدينية ، فنجده يعلق بغمزة قلمه على الإقتباسات التي أردفها في الكتاب، فصحيح ،أنه تدرج و هو يتحدث عن ظهور مفهوم الإيمان بالله ، بادئا من من الحضارات القديمة و من ثم الديانات السماوية و خاتما كلامه بالتعقيبات الفلسفية، و لكن العقاد كان يترك بعض التلميحات في الفصول الأولى للكتاب لتجر أفكارنا بترقب للفصول المتعاقبة و خاصة الأخيرة،فهو بين لنا إختلاط المفاهيم الفكرية للديانات المتعددة ، فحتى الديانات الوضعية خالطت بعض مفاهيمها الديانات السماوية،و وضح دور الفلسفة في إطلاق شرارة النظر للأديان بصورة مغايرة، و من الآثار التي ترتبت على هذه النقلات النوعية الهامة في التاريخ الوجودي، فنلحظ إنبثاق المذاهب في مختلف الديانات ، و ظهور المجادلات بين علماء الأديان و بعضهم البعض، و كذلك بين الفلاسفة و بعضهم البعض ، و بالطبع بين علماء الأديان و الفلاسفة...
فالكثير من الخلافات الدينية و الوجودية التي شغلت سطور كتب التاريخ و الفلسفة و الدين ،لخصها العقاد و هو ينتقل بنا من معضلة إلى أخرى،و منها الصراعات على الخلافة في العصور إلى الإسلامية السابقة ، و قضية خلق القرآن، و فكرة إستنساخ الأرواح ،وغيرها .و هذه المعضلات يقوم البعض بإحياء ذكراها حتى في وقتنا المعاصر ،و لأسباب متباينة،و يتقاتل الكثير من المحيين لها لإثبات صحة ما لديهم من آراء و قناعات ، و الغريب في الأمر أن العقاد بين حججه تجاه هذه الصراعات و المعضلات و عرض لب أفكاره حولها قبلهم و بإفحام فذ وموجز!
و من الجدير بالذكر أن العقاد قام في الفصول الأولية للكتاب بالولوج لمضامين عقائدية متعلقة بالتوحيد ، فوضح وجهات نظر الشعوب قديما و حديثا حول الإيمان بالله ، و بعد ذلك زاد في التوضيح بحديثه عن وحدانية الإله و تعدد الآلهة لدى تلك الشعوب ، و بخصوص هذا الجانب العقائدي فهو لم يمر به على عجالة بل تمهل و هو يشرح ما إستوطن عقول الشعوب التي تعدد لديها الآلهة ،و الشعوب التي كانت عندها أصنام ،و أسباب إختيار بعض الشعوب للآلهة التي آمنت بها، و عرج أيضا على بعض الطقوس الدينية بشكل غير مبهم ،و العقاد هنا يبدو كمن يحاول أن يروض الأفكار المسبقة التي إعتادها الكثير من الناس، و كأنه يود أن يصحح الخاطئ منها بإيلاج أحكام العقل للتحكيم فيها .
كتاب(الله) للأديب عباس محمود العقاد،فيه فلسفة دينية ،مبطنة بالسلاسة ،و يحركها الذهن !