" أفراح القبة " آخر قراءات هذا العام،وجاءت كأجمل ما يكون الختام . مآسي المسرح تتنقل إلى أحد بيوت القاهرة القديمة، الأبطال يتصارعون على خشبة المسرح ،أما في البيت فيقفون صفًّا واحدًا في جانب واحد،هو جانب الشر، كلهم ممثلون، حتى الناقد ممثل أيضًا ، لا شئ حقيقي إلا الكذب، إذا جاء الطوفان فلن يستحق السفينة إلا أنا وأمي،أرى الكلمات وهي تتحول في هذه الرواية إلى صور لا أفعال، الأبطال جميعهم يرقصون رقصة الموت، على حين يقف " المؤلف" منزويًا خارج المسرح ليصفق دون أن يراه أحد .
" نجيب" لم يقم بشئ هنا سوى أنه كان يسدد لنا الصفعة تلو الصفعة، يصدمنا بالحقائق التي تتسرب على مهل دون تسرُّع ، ثمّة خيط رفيع جدًا بين الحقيقة والزيف، يندر من يستطيع أن يمسك بهذا الخيط ، لكن نجيب كان قادرًا على أن يمسك به،بل إنه تلاعب عليه كثيرًا وتحته كان قلب القارئ يخفق ويضطرب مثل وعاءعلى النار يتخبط ويرتعش بفعل النار المحتدمة بداخله ، وهو فوق الحبل لا يفعل شئ دون أن يوجه لنا بين كل حين وآخر صدمة جديدةً بأنه بالفعل مدرك جيدًا لما يفعل، ويسخرمن رد الفعل بعد كل صدمة ، ويهزأ من القرارات السريعة التي أخذناها في حكمنا على الأشخاص ، ليطوح بكل تلك التصورات ، ويعري كل الحقائق ليعيد بنائها من جديد بالطريقة التي يريدها دون أن تعترض أو تحتج .
" طارق رمضان "، " كرم يونس " ، حليمة الكبش" ، " عباس كرم يونس" ، هم الشخصيات الرئيسية لتلك المسرحية وهم الخيوط الأساسية للحكاية،وكل ما حولهم هم من كماليات المشهد ليس أكثر، لأنه انشغل أكثر بتلك الخطوط الأربعة لأنها تقريبًا هي أكثر الشخصيات حملت عواطف متناقضة للأخرى، وهذا بدروه سيعلي من حدة الصراع، وسيجعلك متلهفًا في أن تعرف من المنتصر الذي تكون الحقيقة عنده ، وهذا ما أخره عليك " نجيب " كثيرًا، ليجعلك تصدر كل أحكامك لينزعها منك جملة ويضعك في مواجهة الحقيقة الأخيرة العارية من كل زيف . ف " طارق" لا يحب عباس وكذا عباس أيضًا ، وكرم لا يحب زوجته حليمة وهي الأخرى تحمل له من الكره والبغض ما يزيد، وعباس لا يضمر حبًّا ولا كرهًا لوالديه، تفاجئك مقولة عباس لحليمة في الزمان الأول: ما أسعد من لا يضيع خفقان قلبه في العدم . وبالتالي عندما تنظر إلى تلك المشاعر المتناقضة التي تكمن تحتها رواسب من الأنين والحزن يتأكد لك حتمًا سر شقاء الجميع .
" عباس" لم يستطع أن يواجه الجميع وينقل لهم ما يحمله تجاههم إلا بالمسرح ، أبى إلا أن ينتقل من مقاعد المتفرجين إلى مسرح الحياة كي يلعب دوره المنشود، لن يظل إلى الأبد جالسًا في عتمة الظلام كي يرى الأشياء غير واضحة ولن يصبح أسير السطح والكتاب والبيت القديم بلونه الباهت ورائحته العطنة، يأبى أن يستسلم لمحاولات تأييسه في كل مرة يقدم للهلالي أو فؤاد شلبي مسرحية جديدة ،ينقل له خبرته البسيطة التي لم تُغمس بدم الحياة بعد بأن الروح لابد وأن تنتصر على المادة وأن الموت هو الانتصار النهائي للروح ، لم يقنعه رد فؤاد شلبي بانه ما زال أمامه الكثير، اعتبر كلامه سخفًا ،تصارعت الأسئلة إلى رأسه تريد جوابًا ، هل حقًا ما زال أمامه الكثير ، لعل فؤاد شلبي لا يدري بما يحدث في غرفة البيت القديم، وغاب عنه جهاد النفس في معركة المراهقة والنزاع الذي لا يهدا بين الشهوات والسمو، بين تحية العابثة وطيفها الزائر للخيال ، لابد للحقائق وأن تخرج إلى النور مسربلة بمأساته التي أخفاها كثيرًا في طيات قلبه.
" طارق " يأبى أن يعترف بالمسرحية أقصد مؤلف المسرحية،الذي سلبه حبّه بل وكان السبب في اختفائها إلى الأبد دون رجعة، يلعن الأدوار الثانوية والنجاح الذي يأمله الإنسان من لعب دور عدو مجرم في مسرحية وهو يعدو الخمسين من العمر، يتأبى على الدور الذي يصوروا في البطل بانه انتحر لكن وبما أنه كان يلعب دورًا رئيسيًا على مسرح الحياة يرى أن الدور لا يتطابق مع الواقع الذي يراه حقيقة لا غبار عليها "
" كرم يونس" العابث الغير مبالي بأي شئ في حياة، حتى اختفاء عباس لم يهزه ، وعندما تحرك للبحث عنه فإنه تحرك فقط تحت إلحاحات أمه التي لا تنتهي، والحقيقة أن " نجيب " لم يقف كثيرًا على سر عدم مبالاة " كرم" بالحياة التي يراها مزحة سخيفة، كيف له أن يشتغل باله بمسرحية وهو لا يهتم بالحياة أصلاً . الستار يرفع تتدلى الحقائق في ظلمة المسرح كما تتدلى فوانيس النور في الشارع المعتم فتكسبه بعضًا من الألفة، الابن صور البيت القديم ماخورًا ، الأم تبدرو بلا ضابط ، علاقاتها تتابع مع المدير والمخرج والناقد وطارق رمضان، الأنفاس تترد بثقل وخشونة ، رؤية تتجلى بوحشية عن الأمل والأب، الأب سعيد برأي الابن في الأم وباطلاعها على رأي ابنها فيها ، الأب يعتبره أحمقًا غبيًّا لأنه لم يعرف الظروف التي نشأ فيها ، إنه نشأ مدينًا للنفاق وهو الآن يتملقه على خشبة المسرح .
" حليمة الكبش" وخزها في قلبها أن يصورها ابنها على تلك الصورة، لم ترى فيه ابدًا في تلك اللحظة الصورة التي كانت تقول له على ضوئها " كن ملاكًا "، كأنه في تلك اللحظة تحول شيطانًا كما لو كان سمع لنصيحة " أبيه " عندما قال له : ينتصر الإنسان على الشيطان بوسائل الشيطان نفسه ، رأسها تتلاطم بأصوات المتدافعة ،حينها آمنت بأنه لا عدل في هذه الدنيا ولن تلقاه إلا بين يدي الله .
الحقائق المتعجلة دائمًا ما تكون ناقصة بقدر ما هي صادمة،لأن الحقيقة لابد وأن تكون أكثر شئ حقيقة ، نحتاج من حين لآخر أن نمثل أنفسنا دون مواربة وأو تحفظ على مسرح الحقيقة حينها من الممكن أن تتكشف لنا ذواتنا ونرانا على ضوء من الواقعية دون مثالية زاعقة، كما قال طارق رمضان : لا يوجد ما هو أقسى من المثاليين ، هم المسئولون عن المذابح العالمية ، دور تراجيدي من الدرجة الأولى، وهذه تقريبًا مشكلة " عباس" ومشكلة الكثيرين أيضًا .