مدن فاتنة وهواء طائش
تأليف
محمود شقير
(تأليف)
ها أنذا أدخلها وأحاول التعرف إليها عن قرب. عبر التعرف إلى المدينة تزداد ثقتي بنفسي، أشعر بأنني مقبل على مفاجآت غير قليلة في الحياة. أي يحفظ حكمة لا أدري أين عثر عليها: كل من جدّ وجد.. ثمة سيارات من مختلف الأشكال الألوان تغدو وتروح في الشوارع... ثمة رجال نساء ورجال يسيرون فوق الأرصفة، نساء من النوعية نفسها التي كنت أراها ذاهبة إلى الكروم، ونساء بملابس تقليدية، نساء كبيرات في السن تقريباً.. أواصل السير في شوارع المدينة مع أبناء عمومتي الذين يلتفتون مثلي في كل اتجاه. للمدينة سحرها الخاص، سحر يتسلل بخفة إلى قلبي ويملأ حواسي. ليست المدينة مزدحمة بالخلق، وهذا أمر أشعرني بالألفة معها منذ اللحظة الأولى... الآن بعد انقضاء ما يزيد على أربعين عاماً على تلك الانطلاقة الصغيرة في شوارع رام الله، أبدو شبه مقتنع بأنني لم أتمكن حتى هذه اللحظة من فض أسرار المدينة على الرغم من صغرها الملحوظ، فقد ترددت عليها بعد ذلك كثيراً من المرات، سكنت فيها، وما زلت أعمل فيها طوال السنوات السبع الماضية. أشعر أنني ما زالت أهفو إلى معرفتها على نحو أفضل. أحبها. تشتاق نفسي إليها باستمرار، أتأمل بيوتها القديمة بأسطحة القرميد، أتأمل البنايات ذات الطوابق العديدة التي أخذت تنتشر على أطراف شوارعها الرئيسية وفي بعض أحيائها الجديدة. أتأملها من نافذة مكتبي، أطيل التفكير فيها، أشعر أنني ما زلت بحاجة إلى مزيد من الوقت لامتلاكها على نحو نهائي أكيد، أو يبدو أنني أحاول البحث عن ذلك السحر الغامض، سحر المدينة الوادعة الذي استقر في قلبي وأنا بعد فتى في السابعة عشرة، ولم يعد سهلاً عليّ امتلاك ذلك السحر من جديد، إلا عبر مقاومة عنيدة للزمن، تتولاها الذاكرة التي لا تحب أن تفقد أماكن سبق لنا أن أحببناها وتعلقنا بها". من رام الله ينطلق محمود شقير إلى عالم أوسع، يحطّ ترحاله في أماكن عديدة منه أمستردام، أيوا، ستافنفر، باريس، ستوكهولم، هيبرستن... يجوب جسد محمود شقير هذه البلاد كما عقله وروحه وقلبه، يتعلق بالأماكن، بجزيئيات صغيرة أو كبيرة منها، يجوب نظره ويفتتن نظره، وتشتعل قريحته مدوناً مشاهد ومرائي وانطباعات، كانت لها أثرها في نفسه، وذلك بأسلوب عذب شفاف تتداخل في ثناياه وجدانيات تجعل من النص قطعة أدبية مفعمة بالأحاسيس، ومكرساً بذلك عملاً فنياً في أدب الرحلات متميزاً يرقى إلى مصاف أدب أعلام الرحالة من الأدباء. ولن يخفى على القارئ تلك اللفتات، وتلك الأفكار التي تجعل من عمل محمود شقير مرجعاً ثقافياً يشبع رغبة عالم الاجتماع وعالم التاريخ والقارئ المطلع على السواء في المجال الثقافي.