اقتباسات أحمد فريد المرسي

يا لهذه المدينة المنهكة! لقد قتلت فيها الحروب أشياء كثيرة إلا الخوف! الخوف يستشري في المكان ويتنطع بالأركان، يطل من نوافذ الشك التي تبدو أكثر سوادًا بهذه العتمة، الخوف في أنحاء منروفيا أكثر جرأة وأعلى نباحًا من كلاب شوارعها ليلًا وبائعيها الجائلين صباحًا!

هي بكيانها الهش تبث الأمان في وجوده المرتجف!

خلف كل محنة حالكة يوجد سبيل آخر، وبعد قنديل ينطفئ لا بد قنديل آخر ينير أقدارًا أخرى

هؤلاء الأبطال الصناديد هم في حقيقتهم مشردون ومخطوفون ولصوص، برغم الهالة الفارغة والبطولات الوهمية والمبالغات التي يحيطون أنفسهم بها، إلا أنهم هم أنفسهم ضحايا قبل أن يصبحوا جناة، ماتت ضمائرهم فاستباحوا حرمات الناس وأموالهم ودماءهم!

قيل له إن من عادات أهل بعض القرى أنه إن مات فيهم زعيم أو بطل أو من يُكبِرونه، شيعوه في أسى إلى «قِدرٍ» ضخم فيطهون من جثته حساءً يتناوله أهل القرية حتى يتماهى جسده في أجسادهم ما بقيت الحياة فيهم!

اليوم أهم من الغد، حلول الليل لا يعني بالضرورة مقدم الصباح، وعندما تغيب الشمس كل شيء ممكن ومنتظر!

هو بطبعه منصت صامت، لا يهوى الثرثرة لكنه يحب أن يسمع لها، يناغي صوتها شيء في نفسه وربما روحه، لرنين كلماتها صدى في أذنه وللكنتها هوًى بقلبه. يهواها، ينتظر لقاءها كل يوم!

الوحدة هي الرفيق الذي اعتاده طيلة حياته،

في حياة الظل لا يحمل الوقت قيمة! فما الزمن غير ترجمة لتلك الدقات التي يسمعها تصدر عن حركة عقارب الساعة حين يجثم الصمت، أو تلك النبضات التي يحسها حين يضع يده على صدره وهو راقد في سريره قبل النوم.

‫***

تقتحم النسائم المفعمة بعطر المحيط شرفة مكتبه الصغيرة فترقص لها الستائر الرقيقة تحيةً وابتهاجًا، وقف كثيرًا على سواحل المتوسط في أنحاء عدة بالإسكندرية، مكانه المفضل صخرة في منطقة «بئر مسعود» يقف فوقها فتتجلى مشاهد الثغر من الغرب إلى الشرق، لكن البحر المتوسط بكل ما له من رصيد في قلبه لا يضاهي هذا الجمال المنفتح على المحيط العظيم بكل مرائيه.

لا يستطيع أن يقاوم إغراء المحيط! المحيط هو القوة والعظمة والمجهول والخيال والمحال، هو السلطان ذو الرهبة والمليك ذو السطوة، المعلم بالحكمة حينًا وبالقسوة في آن، هو الجيد بلا منع والقابض بلا رحمة، هو ذلك القريب البعيد هو الجلي الغامض!

إن القمر مخلوق عجيب يقبع في مكانه هنالك بعيدًا بعيدًا، يراقب الأرض يبتهج لها حينًا ويبكي عليها أحيانًا. سحره يحرك القلوب، ويلهم الأحلام، ويفتن العيون.

‫ يشق للأرواح النور بسجون الأبدان الطين طريقًا سندسًا في الفضاء البراح لتتحرر!

الساعة في المحنة كالدهر في النعمة، يتعلم فيها الإنسان دروسًا أعمق عن الذات، عن الآخر، عن الحياة، فيتخفف من أثقال انشغالاته وينكسر أمام مكتشفاته أو يثور على مسلماته.

والعمر يمر بأسرع مما تظن، قليل التفكير مثل كثيره، استمتع بقدر ما تستطيع، لا تحمل همًّا لما مضى فلن يعود ولا يؤرقك غد فقد يأتي بما تريد، لن يهتم أحد لشجونك ولا لمعانتك، ألمك لك وحدك، الحياة لا تلين إلا

الحال للتحول وإن قبل العقل هذا المنطق، لا تنفك النفس عن رفضه والنزوع إلى دفعنا لتصور أن الحياة قد تستديم نعيمًا دعةً وهناء!

يتقافز الأمل بينهم كالبهلوان يتحسس خطواته ألا يسقط في الجحيم تحت ذاك الخيط الرفيع الممتد من شفا اليأس إلى حافة الرجاء، علمتهم غريزة البقاء أن «الآن» أثمن من أن يضيع دون متعة وانتشاء! وإن تبكي القلوب لا تكف الجذوع عن

تساءل، إن لم تلده أكانت تقبل العيش التعس الذي أفنت عمرها فيه! سالت دمعة من تحت جفنه، نزغ له أن ميلاده كما هو سجن له كان سجنًا لها!

كالدهر في النعمة، يتعلم فيها الإنسان دروسًا أعمق عن الذات، عن الآخر، عن الحياة، فيتخفف من أثقال انشغالاته وينكسر أمام مكتشفاته أو يثور على مسلماته.

الحرب تضع المسلمات محل شك تمتحن الإرادة وتختبر خيرية النفوس. تمحو كل خطوط التحضر من الذاكرة البشرية.

الإنسان أقسى من وحوش الأحراش وأكبر نهمًا من ضواريها!