اقتباسات إرنستو ساباتو

علامَ هذا الهوس في محاولة تفسير كل أحداث الحياة؟

واعتقدت بسذاجة أنها كانت آتية من نفق آخر، موازٍ لنفقي، بينما هي في الواقع تنتمي إلى العالم الواسع إلى عالم الذين لا يعيشون في الأنفاق.

إن عبارة ((كل زمن مضى كان أفضل)) لا تدل على أن قليلاً من الأمور السيئة كان يحدث فيما سلف، وإنما تعني أن الناس لحسن الحظ لايتذكرون هذه الأمور. بل يلقونها في غياهب النسيان.

يستسلم الفنان، في تلك الحركة الأولى التي تغوص في أعماق كيانه المظلمة، لقوى السحر والحلم، ويركض عائداً للخلف وإلى الداخل في المناطق التي تعيد الإنسان إلى الطفولة وإلى مناطق ضاربة في القدم عند الجنس البشري

ضاق الإنسان ذرعاً بالتشييء، إلى النزعة الفردية المفقودة، والحميمية المقهورة، والأنا المنتهكة: كيف لا تُتوقع نزعة أكبر نحو التعبير الغنائي؟ إلا أن هذا السلوك ليس ردة فعل بل هو تمرد ورفض؛ سلوك إبداعي يثري به الإنسان الحقيقة السابقة على الوجود.

لا يستطيع تحريك مشاعرنا شيء غريب عن روحنا تماماً، كما لا يمكن أن يحرك مشاعر الشفقة لدينا شيء ما لم يكن له تقدير كبير لدينا؛ ومثلما تعبّر عنه الكلمة ذاتها؛ إنها عاطفة متبادلة، وحراك مشترك.

تتميز الرواية الجيدة بقدرتها على سحبنا إلى عالمها، وأن نغوص فيه، وننعزل عمّا حولنا إلى درجة نسيان الواقع، على الرغم من أنّها تمثّل كشفاً لذلك الواقع نفسه المحيط بنا!

«يظل المبدع يعمل بلا كلل ويعاود البدء من جديد، كلما اعتقد أنه سيبلغ غايته، التي سوف تُتم عمله. لن يبلغها، كما هو بدهي

ولا يتحقق الوصال إلا من خلال علاقة يتحد فيها جسد وروح، فتتمكن الأنا من الخروج من ذاتها، وتجاوز عزلتها. ولهذا، يعدّ الجنس المجرد مثيراً للحزن، نظراً إلى أنه يتركنا في العزلة الأولى مثقلين بهم المحاولة الفاشلة.

كتابة شيء ما تتركك في حالٍ مثل بندقية أطلقت النار، ومازالت تهتز، ويتصاعد منها الدخان، تجعلك تفرغ محتواك بالكامل، ومن ثم أنت لم تخرج ما تعرفه عن ذاتك فحسب، بل تفرغ أيضاً شكوكك وظنونك، وكذلك مخاوفك وأشباحك وما في عقلك

لأن هذه الأشياء المرسومة في الواقع ليست عوالم ذلك العالم عديم القيمة، بل أشياء أبدعها ذلك الإنسان الكئيب واليائس والقلق من التواصل، والذي يفعل بالأشياء مثلما تفعل الروح بالجسد: يفيض عليها من أشواقه ومشاعره، متجلياً عبر التجعيدات، ولمعان العيون،

وكأنها رموز لذلك الشيء العميق والغامض الذي تعكسه؛ أشياء بلا قيمة وعملية ورمادية بالنسبة إلى أولئك الذين لا يستطيعون فهم السر، لكنها دافئة ونابضة ومحملة بالمعاني السرية بالنسبة إلى الذين يفقهونها

تلك الأشياء في ذلك العالم المتسارع والمتبلد الكائن خارج ذواتنا، والذي ربما كان موجوداً قبلنا، وعلى الأرجح سوف يستمر موجوداً بعد رحيلنا عنه، وكأن تلك الأشياء لم تكن سوى جسورٍ زائلة ومرتجفة

وأصبح مجهول الهوية وبلا شخصية بدرجة كبيرة مثل أدواته. لم يعد يعيش الزمن الحقيقي للإنسان بل في زمن ساعاته الخاصة. يُعدّ هذا بمنزلة سقوط الإنسان في العالم وتسطيح وابتذال وجوده. لقد ربح العالم لكنه خسر نفسه.

قد يبدو لوهلة أن الشيء الوحيد الذي يستحق أن يكون أدباً عظيماً هو مملكة الروح النقية بينما في الحقيقة ما يستحق أن يكون أدباً عظيماً هو الروح المدنسة؛ بمعنى الإنسان، الإنسان الذي يعيش في هذا الكون الهيراقليطي الملتبس (عالم الآثام)،

تصله همهمات الواقع؛ همهمات تنتشر عبر النوافذ لتصعد إلى أعمق جزء من كيانه؛ إنه في النهاية ليس شخصية مثالية جديرة بمتحف ماينونج، بل إنسان من لحم ودم يعيش في هذا العالم، أياً كانت الأدوات التي يستعين بها لكي ينفصل عنه.

إنه منيع، في حين يشعر هو بالعجز؛ إنه نقي، وهو يمقت الواقع الملوث؛ إنه مجافٍ للمشاعر، وهو يتحاشى الإفراط في التعبير عن العواطف؛

«نغمر الشجرة بعواطفنا ورغباتنا أو أحزاننا؛ فيصير منا حفيفها وتمايلها، وسرعان ما نصبح نحن الشجرة. كما يصور الطائر الذي يحلق في السماء توقنا الأبدي إلى السمو فوق الأمور الإنسانية؛ نحن بالفعل هذا الطائر»

الرواية التي لا تترك أثراً، قبلها وبعدها، سواء في الكاتب أم في القارئ، لا جدوى منها