دفعني الفضول منذ يومين لأسمع كيف يبدو وقع الشعر الفارسي في الآذان وكنت أبحث عن شئ من المثنوي لجلال الدين الرومي والذي قرأت ترجمته المحكمة إلى العربية على يد الدكتور/ ابراهيم الدسوقي شتا من أربع سنوات وفي طريقي
تعثرت بهذا المقطع الحاني :
http://www.youtube.com/watch?v=uXitinFPmmc&list=UUCkJTV-0QGkqSf56cGEQqM
تخيلته رجلا بعمامة ولحية كثيفة مثل جدي لأمي رحمه الله إلا أنه قد تاهت منه( قافلة عمر) ابنه فإذا به يسير في الصحراء ملتاعا، مغبر الجبين، حافي القدمين ينادي ضائعه ...هكذا أردت الأمر وهكذا كانت ترتفع الموسيقى الدافئة في نهاية المقطع لتزيد تعلقي به فأتلكأ ببراد الشاي على الموقد لأستمع إليها مرارا وتكرارا أمام شباك مطبخي الصغير... ثم مللتها ككل شئ وأردت المعنى فإذا بصاحب المقطع قد دوّن منذ عامين ترجمتها الى الانجليزية وهي كالتالي:
The caravan of life shall always pass
Beware that is fresh as sweet young grass
Let’s not worry about what tomorrow will amass
Fill my cup again, this night will pass, alas.
- Omar Khayyam
ومن هناك إلى هنا ...إلى رباعيات الخيام بترجمة الشاعر المصري أحمد رامي والتي بالرغم مما وجدته فيها من سلاسة وبساطة في التعبير إلا أني قرأت من الرباعيات ما هو أجمل من ذلك وأعمق... ولا أود الحديث عنها بقدر ما أشعر باحتياج شديد لأن أكتب شيئأ كثيرا عن عمر الخيام ومن أجل عمر الخيام ..
إني أكاد أجزم أن كثيرا من المسلمين سلفيين كانوا أم وسطيين إن قرأوا بعضا من أشعاره فلن يتبادر إلى أذهانهم إلا صورة عاطل عن العمل ، عاصي مجاهر، و عجوز سكير لعبت الخمر بعقله فأخذ يسأل بجرأة عن القدر والمصير ....فإذا به تلميذ ابن سينا النجيب وهو نفسه عالم وأستاذ في العلوم الالهية والفلسفة والطبيعة ..بل لم يقنع بذلك فدرس الطب ومهر فيه حتى استعانوا به في مرض ولي عهد السلطان شاه ثم درس الفلك وشارك في كتابة التقويم الجلالي الذي يبدأ بيوم النيروز (وهو عيد الربيع عند الفرس)....كان قارئا للقرآن مصلياً حاجاً ثم ماذا ؟؟ ينسى الناس هذا كله ولا يحكموا عليه إلا من خلال ضعفه ..كأس الخمر التي كان ينتشي بها مع أصحابه أمام منزله في اوقات السمر ....وكعادة ذلك العصر الغريب الذي امتلأ بالتكفير حيث كُفر من قبل أستاذه ابن سينا والذي بدوره هو الآخر كفر ابن عربي و ابن الرومي فلقد تم تكفير الخيام حتى اضطر في أخر حياته إلى التزام الصمت واعتزال الناس مخافة أن يستحلوا دمه .......
ولست أعني بحديثي هنا تحقير ذنب الخمر فهو كبيرة لا خلاف وإنما خمر الخيام هي التي اعني تلك التي يمسك بها كلا منا بيده فهو إما يعاقرها في وضح النهار او يداريها في جنح الليل ...حديثي هنا عن التناقض في شخصية الخيام والأهم كيف تبنى هو هذا التناقض والأغلى من كل ذلك يقينه بالله الذي لم يهتز أبدا رغم لوم اللائمين فكان في غمرة السكر ينشد الرباعيات في ظنه برحمة الله الواسعة ومغفرته التي تسع الوجود كمثل قوله:
بيني وبين النفس حرب سجال
وأنت يا ربي شديد المحال
أنتظر العفو ولكنني
خجلان من علمك سوء الفعال
كان صادقا مع نفسه كفاية ليعلم أنه مزيج من ماء نقي وطين عكر وكان مؤمنا كفاية ليعلم أن الله يقبله بالنقيضين تعامل مع الأمر ببساطة من يجزم أن التناقض سمة كونية وإلا فلنحررجميعا شكوى إلى الله لأن اليل والنهار يتدثران دوما بيوم واحد. ..ثم يصرعك المغفلون حينما يظنون بامرء خيرا فإن تحدث عن صغار الأمور كالموسيقى مثلا انتهكته نفس الأعين التي امتدحته من قبل وقذفوه بالجريمة ((أنت متناقض)فوالله لو استطاع أحدا على هذه الأرض أن يبقي على نشوته بالموسيقى أو تعلقه بصغار الأمور ذنوبا وحيدة يلقى الله بها لضمن جنته برحمته سبحانه ولكن ماذا أقول وذنوب الحياة أبعد من فهم الأحمق وأقرب ما تجني يداه فطوبى للفطرة السليمة وتعس المغفلون فوق كل أرض.....
بقي في نفسي شئ أخر وهو لرقة أحمد رامي في أن يستهل كتابه الذي أمضى من أجله عامين يدرس اللغات الشرقية بجامعة السوربون بفرنسا بأخر عبارة قالها الخيام حين شعر بقرب أجله فقام واغتسل وصلى ركعتين ثم قال : ((اللهم إني عرفتك على مبلغ إمكاني فاغفر لي ، فإن معرفتي إياك وسيلتي إليك)) ثم أمعن في الرقة فرتب الرباعيات بحيث تكون هذه أخرها :
يا عالم الأسرار علم اليقين
يا كاشف الضر عن البائسين
يا قابل الأعذار فئنا إلى ظلك
فاقبل توبة التائبين
شعرت و كأنه بذلك يصدح قائلا : (( فلتعلموا ...عمر الخيام في الجنة))
_ وارتفعت قيمة الكتاب في نظري بعد إهداءه الراقي لكلمات الخيام المدفون في نيسابور لأخيه الشهيد المدفون بحيفا فكان الكتاب وكانه هدية بين قبرين ... رحم الله الثلاثة ورحم الأحياء معهم إلى يوم الدين ...آمين .