التاريخ : السنة العاشرة للهجرة
المكان: مكة
الحدث : يعلن النبي بأنه سيحج وتأتي توجيهاته أن يؤذن في الناس أن لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوفن بالبيت عريان
فلقد تطهرت أرض الجزيرة من وثنية العرب، و تطهرت ديار الإسلام من عفن اليهود، أعداء البشر. وافتضح المنافقون وسقطت أقنعتهم، ودخل الناس في دين الله أفواجا. فيستشف من ذلك صلى الله عليه وسلم أنه راحل إلى ربه تعالى .فيقدم المدينة بشر كثير كلهم يلتمس أن يأتم برسول الله صلى الله عليه وسلم ويعمل بمثل عمله، وتنطلق قوافل الحجيج من المدينة ومن أقطار الجزيرة كلها بقيادته صلى الله عليه وسلم ملبين، قد أزيلت معالم الجاهلية وأصنامها.في ذلك الجمع العظيم نري بحراً من رجال الإسلام مائة ألف من الناس أو مائة ألف وأربعة وأربعون ألفا منهم يموج حول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالتلبية والتكبير والتسبيح والتحميد، تدوي له الآفاق، وترتج له الأرجاء .يا له من منظر يغيظ الكفار ويبكيهم
يا أيها الناس اسمعوا ما أقول لكم ، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في هذا الموقف
يا لها من كلمة مؤثرة، وخاصة إذا سمعت من حبيب، ممن ربى وعلم وأرشد
إنها كلمات الوداع يسمعها عمر فتهتز لها نفسه غصت العبرات وجف الحلق، ووصل به الأمر غايته
كفكف دموعك ليس ينفعك البكاء واستمطرِ الإنقاذَ من ربِ السماء
ويفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من إلقاء الخطبة وينزل عليه قوله تعالى
اليوم أكملت لكم دينكم
ولما نزلت بكي عمر لم تعد نفس عمر تحتمل كل هذا، حينها انفجر عمر، أرسل عينيه لتبكي لعلها تخفف لوعته، تلك الآية حركت ما في نفسه فلم يستطع أن يستمر في التشاغل عما فيها
فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ياعمر ؟
إن بكاء عمر ليس كبكاء غيره، إن الموطن موطن عزة وجمع كلمة وانتصار للإسلام فما الذي يبكيك يا عمر.؟ ما الذي يبكيك فداؤك نفسي يا فاروق الأمة .
أنا من أردتك صابراً متجلداً لا تستكين
فلم لا تسبل العبرات منِّي ولست على اليقين من التَّلاقي؟
فلا والله، ما أبصرت شيئاً أمرَ على النفوس من الفراقِ؟
إنها الآية بل بعض آية هيجت مشاعر عمر تلك النفس الصافية، تلك الآية هي من آخر ما نزل من القرآن الكريم، لتعلن في ذلك الموقف على الحجيج في عرفة كمال الرسالة، وتمام النعمة
فيحس عمر - رضي الله عنه - ببصيرته النافذة وبقلبه الواصل أن أيام الرسول صلى الله عليه وسلم على الأرض معدودة
فقد أدى الأمانةر وبلغ الرسالة ولم يبق إلا لقاء الله . فيبكي - رضوان الله عليه - وقد أحس قلبه دنو يوم الفراق
اليوم أكمل الله هذا الدين فما عادت فيه زيادة لمستزيد وأتم نعمته الكبرى على المؤمنين بهذا المنهج الكامل الشامل ورضي لهم { الإسلام } ديناً
فهذا هو الدين ولم يعد للمؤمن أن يتصور أن بهذا الدين بمعناه هذا نقصاً يستدعي الإكمال ولا قصوراً يستدعي الإضافة ولا محلية أو زمانية تستدعي التطوير أو التحوير
وإلا فما هو بمؤمن وما هو بمقر بصدق الله وما هو بمرتض ما ارتضاه الله للمؤمنين
ولقد كان العرب المخاطبون بهذا القرآن أول مرة ، يدركون ويتذوقون هذه الكلمات
لأن مدلولاتها كانت متمثلة في حياتهم ،في ذات الجيل الذي خوطب بهذا القرآن
إنها الفوضى والاضطراب والتخبط في أقصى معانيها في جميع مجالات الحياة الاعتقادية، والاجتماعية، والاقتصادية
الإسلام انتشل أهله من السفح من القاع فصعد بهم بقوة ورفق إلى القمة،فينظرون إلى القاع بنظرة من يروعه أن تزل قدمه فيسقط من القمة ويهوي إلي القاع حيث يكون الهلاك والتخبط مرة أخرى
نقلهم في الاعتقاد من عبادة الأصنام والأحجار والكواكب والأشجار و.. من الخرافات والأوهام، إلى القمة
إلى عبادة الله وحده، وفي الحياة الاجتماعية من سفح الاستبداد والظلم، والطبقية المقيته، ووأد البنات، واحتقار المرأة ومهانتها ،والتبرج والاختلاط ، والفوضى الجنسية، والخمر والقمار، والثارات والغارات والنهب والسلب،وتفرق الكلمة. إلى قمة العدل والمساواة ، وإكرام المرأ ة بكافة مراحل حياتها
وإحاطتها بسياج من الأسباب التي تحفظ لها عفتها وطهارتها، وحفظ العقول مما يهدرها ويخلصها من لوثة الجنون، وضبط المجتمع بنظم تحفظ لكل ذي حق حقه، مع توحيد الكلمة وقوة النفس والعزة والكرامة
أأدركنا الآن لماذا بكى عمر؟!!